الرحالة الألمانى “هاينرش بروجش”ورحلته إلى مصر..” استكشافات تاريخية وثقافية”
بقلم:- الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه

في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت مصر وجهة رئيسية للباحثين والمستكشفين الأوروبيين الذين توافدوا لاستكشاف حضارة هذا البلد الغنية وعجائبه الأثرية. من بين هؤلاء المستكشفين كان العالم الألماني هاينرش بروجش، الذي ولد في 18 فبراير 1827 وتوفي في 9 سبتمبر 1894. قدم بروجش إسهامات كبيرة في مجال دراسة التاريخ والآثار المصرية من خلال رحلاته إلى مصر وتوثيقها في كتابه الشهير “رحلة إلى مصر” ، الذي نُشر عام 1855.
خلفية علمية
قبل زيارته لمصر، كان بروجش قد حصل على درجة الدكتوراه في اللغة المصرية القديمة، وكان يعمل كمساعد في متحف برلين. وقد تميز بروجش بموهبته في فهم وقراءة الهيروغليفية، مما جعله واحدًا من أبرز علماء المصريات في عصره.
استكشافاته وأهم معالم رحلته
خلال رحلته إلى مصر، زار بروجش العديد من المواقع الأثرية الهامة، بما في ذلك:
– الأهرامات في الجيزة: استكشف بروجش أهرامات الجيزة وقدم رسومات تفصيلية للأهرامات والنقوش الداخلية.
– معابد الأقصر والكرنك: قضى بروجش وقتًا في دراسة معابد الأقصر والكرنك، حيث وثق النقوش الهيروغليفية وقدم تفسيرات لها.
– وادي الملوك في طيبة: استكشف بروجش مقابر وادي الملوك، وقدم وصفًا مفصلًا للرموز والنقوش الموجودة على جدران المقابر.
لم يقتصر اهتمامه على المواقع الشهيرة فقط، بل سعى أيضًا لاستكشاف المناطق النائية والقرى الصغيرة التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي من قبل المستكشفين الآخرين. كان هدفه ليس فقط دراسة الآثار المعروفة، بل أيضًا فهم حياة المصريين اليومية والثقافة المحلية، ومن هذه الزيارات، رحلته القصيرة إلى بحيرات وادي النطرون ودير السيدة العذراء للسريان: مغامرة تاريخية في قلب الصحراء المصرية، فقد ذكر في كتابه مايلي:
“في رحلة مشوقة إلى أعماق الصحراء المصرية، كانت وجهتي القادمة بحيرات النطرون ودير السيدة العذراء السرياني، وهو من المواقع التاريخية البارزة بالقرب من هذه البحيرات. بدأت هذه الرحلة بصحبة البارون النمساوي فون فريدوا، الذي كان يعتزم مع رفاقه القيام برحلة علمية إلى الهند، لكنه قرر القيام ببعض الرحلات وتسجيلها في مصر أولاً. وقد استقللنا مركبًا نيليًا لنسافر عن طريق قناة المحمودية قادمين من الاسكندرية، وكانت الرحلة قد بدأت في مساء يوم الأحد، السادس من فبراير1857، في أجواء مميزة حيث تجنب العرب السفر في الصباح الباكر. وكانت الباخرة تُبحر في جو يسوده الهدوء والسكينة، بينما كان البحارة يمرحون على أنغام الموسيقى والرقص التقليدي، الذي تميز بحركات فنية لا تخلو من فكاهة.”
التقدم في الرحلة
“مع تقدمنا في الرحلة، كانت المناظر تتغير من البيوت الريفية المنعزلة إلى القرى البسيطة المزروعة بالنخيل. وعندما وصلنا إلى مدينة طرّانة، كان استقبالنا من قبل مضيفينا ودودًا، حيث حصلنا على استعدادات للرحلة إلى الصحراء، التي كانت تستغرق حوالي اثنتي عشرة ساعة، وفي عمق الصحراء، ظهرت لنا بحيرات النطرون، وقد وصفها الكاتب بأنها تبدو وكأنها مياه مظلمة كثيفة، ومع حركة الرياح، كانت الأمواج تتلألأ بلون قرمزي خفيف، محدثة مشهدًا غريبًا، وكانت المياه ذات اللون الأحمر الناجم عن الكائنات الدقيقة تغطي سطح البحيرات، وتحيط بها قشرة من الملح الكثيف.”
زيارة الدير
“كان الدير الذي قصدناه يقع على بعد ثلاث ساعات من الرحلة، وتقدمنا إليه عبر أرض رملية تظهر عليها آثار من تراكم مادة النطرون. عند وصولنا إلى الدير، استقبلنا الرهبان بترحاب شديد، وقد ظنوا في البداية أننا لصوص من البدو. وقد قاموا بفتح البوابة المنيعة بعد محادثات طويلة.فالدير، الذي يعود تاريخه إلى زمن بعيد، يضم في جنباته العديد من المعالم التاريخية، بما في ذلك الكنيسة التي تحتوي على آثار مقدسة مثل المومياوات الخاصة بالقديسين. وقد قمنا بجولة في أرجائه، وزرنا المكتبة التي تحتوي على مخطوطات دينية قديمة، على الرغم من أن الرهبان رفضوا بيعها لنا بشدة، مؤكدين أن هناك لعنة تحل بمن يأخذ منها شيئًا.”
الحياة في الدير
“كانت الأجواء في الدير تحمل طابعًا هادئًا، حيث أعقبنا الرهبان إلى الكنيسة للمشاركة في قداس صباحي، الذي كان مميزًا في طقوسه، وحضره مزيج من الرهبان النائمين والضحاكين والذين ينشغلون بحديث غير مكترث. وفي نهاية القداس، قدم لنا الرهبان وداعًا دافئًا قبل أن نبدأ رحلة العودة إلى بلدة طرّانة. كانت تلك الرحلة تجربة فريدة، عرفتني بكنوز مصر التاريخية وقدمت لي لمحة عن حياة الرهبان في أقصى الصحراء، بكل ما تحمله من صعوبات وبهجة فريدة في ذات الوقت.”
فالنص يتحدث عن تجربة رحلة الرحالة إلى المناطق المحيطة بنهر النيل، وتحديدًا إلى منطقة “بحيرات وادي النطرون” والكنيسة القبطية المعروفة باسم “دير السيدة العذراء للسريان” بالقرب منها. ويُعتبر النص مزيجًا من السرد التاريخي والرحلات الاستكشافية، ويعكس تجربة الكاتب الغنية والمعمقة في زيارة أماكن تاريخية ودينية ذات أهمية كبيرة في مصر.
إن النص يحمل إشارات إلى تاريخ مصر، حيث يذكر الكاتب أن الدير يعود تاريخه إلى ما يقارب 1500 عام، وهو ما يضيف بُعدًا تاريخيًا مهمًا. ويشير إلى أن الدير كان في الماضي يضم طائفة من المسيحيين السوريين والمصريين معًا، ما يعكس تنوع المعتقدات الثقافية والدينية في هذه المنطقة في العصور القديمة. إن هذا النص يوضح أيضًا أن هناك أربعة أديرة رئيسية في المنطقة، التي كانت تعج بالمئات من الرهبان في القرن الرابع الميلادي.
كما يصف الكاتب بدقة رحلة السفر إلى الدير، متحدثًا عن طبيعة الطريق المؤدي إلى المنطقة، الذي يتضمن المرور بالصحارى والمناطق الرملية. يُظهر النص المشاهد الطبيعية، مثل النخيل والأمواج في البحيرات المالحة، مما يمنح القارئ تصورًا حيًا للمناظر الطبيعية وتضاريس المنطقة.
وينقل الكاتب انطباعاته الشخصية من هذه الرحلة بشكل واقعي ومفصل، بدءًا من وصف تجربة السفر عبر القارب على النيل، وصولاً إلى وصف استقبال الرهبان لمجموعة الرحالة. كما يبدو أن الكاتب كان متأثراَ بجمال المناظر الطبيعية وتنوع التقاليد الثقافية والدينية. كما يوضح لحظات التوتر التي شهدها لدى وصوله، عندما ظن الرهبان أن الزوار كانوا لصوصًا، مما يضيف عنصر التشويق للعرض.
إن النص يستعرض الطقوس الدينية في الدير، ويشير إلى أن الرهبان يؤدون الصلوات ثلاث مرات يوميًا، مع تفاصيل عن صيامهم وممارساتهم الروحية الأخرى. يقدم الكاتب أيضًا لمحة عن كيفية أداء الصلاة في الدير، مع تفاصيل عن الملابس التقليدية والممارسات المميزة للرهبان، مثل الإمساك بالعصا في الصلاة والأوضاع التي يتخذونها. ويكشف النص عن الأجواء المتنوعة في الكنيسة، مثل أصوات الرهبان وتصحيحهم للقراءات، ما يوضح أن التجربة الدينية هناك ليست خالية من النشاط البشري وأحيانًا الاضطراب.
ويشير النص إلى أن الرهبان يتلقون احتياجاتهم من المياه المالحة التي يجلبها البئر في الدير، ويستعرض أيضًا تفاصيل عن الطعام الذي يتناولونه مثل الحم البارد والحساء، ما يعكس واقع الحياة المعيشية في الدير. كما يعكس النص الجانب الاجتماعي من التجربة بذكر ممارسات الضيافة والكرم عند استقبال الزوار، وأهمية الهدايا المالية (البقشيش) في التعامل مع الرهبان.
فيصف النص أجواء الرحلة والتجربة الحسية بشكل لافت، مثل مشاهد النجوم في السماء وصوت المياه المتدفقة، وتضادها مع البرودة في الليل. هذا يضيف طابعًا واقعيًا للرحلة، ويوضح المشاعر المختلفة التي شعر بها الكاتب مثل الاستمتاع، الإثارة، والتوتر، مما يعزز من قيمة النص كوثيقة أدبية وتاريخية. فالنص يُعتبر وثيقة أدبية وتاريخية متكاملة، حيث يدمج بين السرد الشخصي والتفاصيل التاريخية والجغرافية. يعكس تجربة الكاتب المميزة في زيارة منطقة ذات أهمية تاريخية ودينية كبيرة، ويظهر التحديات التي واجهها في رحلته وتفاعله مع البيئة المحلية. يمنح النص القارئ فرصة للاطلاع على الحياة في دير نائي وممارسات الرهبان، مما يعزز فهم القارئ لتاريخ وثقافة مصر القديمة وتقاليدها.
وبالعودة مرة أخرى إلى تفاصيل الكتاب وأثره، نجد أن كتاب بروجش “رحلة إلى مصر” عام 1855، ليكون بمثابة سجل دقيق لرحلاته واستكشافاته في مصر. احتوى الكتاب على رسوم توضيحية مفصلة ونقوش هيروغليفية مترجمة، بالإضافة إلى وصف شامل للمواقع الأثرية التي زارها. تميز الكتاب بأسلوبه العلمي الدقيق ومعلوماته الشاملة التي قدمت صورة واضحة عن الحضارة المصرية القديمة.
تأثير الكتاب
شكل كتاب هاينرش بروجش “رحلة الى مصر” مصدرًا هامًا للباحثين والمستشرقين الأوروبيين الذين جاءوا بعده. فقدم لهم الرجل في كتابه معلومات قيمة ومستفيضة عن مصر القديمة، مما أدى إلى زيادة الاهتمام الأكاديمي بمصر ودراستها بشكل أعمق. وبفضل كتابه، أصبح العديد من النقوش الهيروغليفية مفهومة بشكل أفضل، وساعدت ترجماته على إلقاء الضوء على جوانب جديدة من الحضارة المصرية القديمة، بما في ذلك الدين والاقتصاد والحياة اليومية.
بروجش والمجتمع العلمي
إلى جانب كتابه، كتب بروجش العديد من المقالات والأبحاث التي تناولت جوانب مختلفة من الحضارة المصرية. حيث شارك في مؤتمرات علمية دولية وساهم في تأسيس جمعيات مهتمة بعلم المصريات. وكان له دور بارز في تعزيز التواصل بين العلماء الأوروبيين والمصريين، وساهم في تبادل الأفكار والمعارف بين الثقافات.
ترك بروجش إرثًا علميًا كبيرًا لا يزال يلهم الباحثين في علم المصريات حتى اليوم. وبفضل إسهاماته، تمكنت الأجيال اللاحقة من العلماء من بناء فهم أعمق وأكثر شمولية للحضارة المصرية القديمة. كما يمثل هذا الكتاب مثالًا رائعًا على كيفية التفاني والشغف بالبحث، الذي يمكن أن يؤدي إلى اكتشافات هامة تعزز المعرفة الإنسانية.
تشكل رحلة هاينرش بروجش إلى مصر واحدة من أهم الرحلات الاستكشافية في تاريخ علم المصريات. من خلال كتابه “رحلة إلى مصر”، قدم بروجش إسهامًا لا يقدر بثمن في فهم تاريخ وثقافة مصر القديمة، مجسدًا بذلك دور العلماء والمستكشفين في جسر الهوة بين الثقافات وتعزيز التفاهم العالمي. يمثل هذا الكتاب مرجعًا لا غنى عنه لكل من يهتم بدراسة الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها على العالم، ويوضح كيف يمكن للبحث العلمي والتفاني الشخصي أن يسهما في تعزيز المعرفة والثقافة.
بقلم:-
الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا