مقالات

الديستوبيا النيوليبرالية: انعكاسات الأدب على واقع عالمي متغير

بقلم:- الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه..أستاذ الأدب الألمانى

قبل أن نبدأ التحليل يجب علينا أن نعرف ماذا يعني مصطلحي “اليوتوبيا والديستوبيا؟” والمعنى البسيط لهما، أن الأول يكون قصة خيالية تدور أحداثها في المستقبل أو ما شابه ذلك.
اسم النوع الأدبي من ديستوبيا يأتي من اليونانية: Dys تعني سيئ، Tópos تعني المكان. لذا فإن نص الديستوبيا هو نص يصف مكانًا سيئًا. والديستوبيا هي عكس اليوتوبيا، التي تشير إلى مستقبل جيد وجميل وسلمي. فالديستوبيا هو عالم خيالي تم بناءه عمدًا ليكون أسوأ من عالمنا، أما العالم الطوباوي فهو أفضل من عالمنا. ومع ذلك، فإن العديد من عوالم الخيال العلمي ليست أفضل ولا أسوأ، بل مختلفة فقط. أما أمثلة الديستوبيا، فهي غالبًا ما تصور حالات تتميز بالفقر أو الدكتاتورية أو العنف أو المرض أو الجوع أو التلوث البيئي الشديد والتي ينظر فيها الفرد العادي إلى الحياة على أنها سيئة للغاية مقارنة بعالم اليوم، وبطل الديستوبيا وهو الذي يعتقد أو يشعر أن هناك شيئًا خاطئًا جدًا في المجتمع الذي يعيش فيه ويساعد الجمهور على رؤية الجوانب السلبية للعالم البائس من وجهة نظره. لكن كيف يتمرد أبطال الديستوبيا؟
عندما يواجه معظم أبطال الديستوبيا تمردًا، فإنهم يفعلون الشيء المعقول ويهربون، ولكن لا يزال هناك شيء ما في الفكرة يثير اهتمامهم – وهو ما يكفي فقط لعدم انسحابهم تمامًا من الموقف، ويستمرون في المراقبة والقيام بأخطر شيء في عالم الواقع المرير. إن الديستوبيا تقدم للناس فرصة للعمل من خلال أسئلتهم. إنهم بمثابة مرآة أو عدسة مكبرة للمجتمعات الحالية من خلال تمكين التفكير في المواقف الحالية خطوة أخرى إلى الأمام والتساؤل عما يمكن أن يؤدي إليه التطور.

وبما أننا نعيش في عالم يشهد تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية بفعل النيوليبرالية، أصبح الأدب نافذة لرصد الواقع وتحذير المجتمعات من تحديات المستقبل. وتبرز روايات الديستوبيا النيوليبرالية بوصفها تعبيرًا أدبيًا عن القلق من آثار النيوليبرالية، حيث تعكس تلك الأعمال تداعيات السياسات التي تركز على السوق المفتوحة على حساب العدالة الاجتماعية والإنسانية، وهنا يجمع الأدب المصري والألماني بين تناول قضايا النيوليبرالية، لكن كل منهما يعبّر عنها من زاوية تعكس خصوصيته الثقافية.

أدب الديستوبيا بين التحذير والنقد: مرآة عصر النيوليبرالية
لطالما كان الأدب مرآة تعكس القيم والمخاوف الإنسانية، ولم يكن في أي وقت من الأوقات أكثر قدرة على تحفيز الفكر النقدي والتأمل في المستقبل من أدب الديستوبيا. ومن بين أبرز تلك الأعمال التي تنبأت بتداعيات السياسات النيوليبرالية، نجد رواية “يوتوبيا” للكاتب المصري أحمد خالد توفيق (1962-2018) التي صدرت عام 2008، ورواية “السحابة” للكاتبة الألمانية جودرون باوزه-فانج (1944–2019) التي ظهرت عام 1987.

ففي رواية “يوتوبيا” يقدم أحمد خالد توفيق رؤية مستقبلية قاتمة للمجتمع المصري في عام 2023، حيث يشهد المجتمع انقسامًا حادًا بين نخبة محصنة في مدن مغلقة، وبين أغلبية مسحوقة تعيش في فقر وتهميش، وتحذر الرواية من أن السياسات النيوليبرالية، التي تركز على السوق وتعزز من التفاوت الطبقي، تؤدي إلى عواقب اجتماعية كارثية. يقول توفيق في أحد اقتباساته البارزة: “عندما يتحول الإنسان إلى وحش جائع، لا يمكنك توقع ردود أفعاله. لقد تجاوزنا كل حدود الإنسانية.” هذه الجملة تلخص تمامًا المعاناة التي يعيشها المواطنون في هذا المستقبل الطوباوي، حيث يضيع كل أمل في العدالة والمساواة، ويتحول الإنسان إلى مجرد كائن يسعى للبقاء في عالم مليء بالظلم والفوضى.

أما في رواية “السحابة” التي نُشرت عام 1987 للكاتبة الألمانية جودرون باوزه-فانج (1928-1995)، فإن الكاتبة تقدم رؤية نقدية تتناول كارثة نووية تضرب ألمانيا، مستعرضة التهديدات التي تفرضها التكنولوجيا المتقدمة عندما تُستخدم بلا رقابة أخلاقية. إن الرواية تُبرز كيف تتحول الربحية إلى أولوية تتجاوز سلامة الإنسان وبيئته في ظل السياسات النيوليبرالية.
تقول باوزه-فانج في أحد مقاطع الرواية المؤثرة: “التكنولوجيا بلا ضمير هي قنبلة موقوتة في قلب الإنسانية.” هذه العبارة تعكس رسالة الرواية الأساسية، التي تحذر من مخاطر الاعتماد المفرط على الابتكارات العلمية دون مراعاة التأثيرات الأخلاقية والاجتماعية. من خلال تصويرها لتداعيات الكارثة النووية، تطرح الكاتبة أسئلة جادة حول المسؤولية البشرية تجاه التكنولوجيا: هل يمكن أن يكون التقدم العلمي مدمراً إذا ما فقد قيمته الإنسانية؟

وفي حديث لها عن الرواية قالت باوزه-فانج: “كتبت رواية “السحابة” ليس فقط لتحذير الناس من الطاقة النووية، بل لإجبارهم على التفكير في ما نعطيه للتكنولوجيا وما نأخذه منها”. إن كلماتها تلخص رؤيتها الإبداعية، حيث تدعو القارئ إلى عدم الانبهار الأعمى بالتقدم التكنولوجي، بل إلى التفكير النقدي حول التبعات الاجتماعية والبيئية التي قد تنجم عنه.
إن الرواية بذلك تتجاوز كونها سردًا خياليًا لتصبح نقدًا عميقًا لسياسات النيوليبرالية، التي تُهمل القيم الأخلاقية والإنسانية لصالح المصلحة الاقتصادية، محذرة من كوارث محتملة قد لا تقتصر على التداعيات البيئية بل تتعداها لتشمل انهيار النسيج الاجتماعي ذاته.

بينما يركز توفيق في “يوتوبيا” على التداعيات الاجتماعية للنيوليبرالية، فإن باوزه-فانج في “السحابة” تبرز تأثيراتها البيئية والتكنولوجية. ومع ذلك، تتلاقى الروايتان في تحذيرهما من أن الاستمرار في تطبيق السياسات النيوليبرالية قد يؤدي إلى انهيار البنية الاجتماعية والبيئية. ففي رواية “يوتوبيا” يعبر توفيق عن انقسام المجتمع بشكل شديد القسوة، حيث يتقوقع الأغنياء في حصونهم بينما يعاني الفقراء في الخارج، أما باوزه-فانج في رواية “السحابة” فإنها تركز على تهديدات العالم التكنولوجي الذي يغرق في المادية والتنافس غير الأخلاقي.
وبهذا، يمكن القول إن الأدب النيوليبرالي لا يقتصر على تصوير عوالم خيالية، بل هو أداة فاعلة لتحليل الواقع وكشف الآثار المدمرة للأنظمة الاقتصادية والسياسية. فمن خلال هذه الأعمال الأدبية، مثل “يوتوبيا” و”السحابة” يقدم الأدب قراءة نقدية حادة، ويضعنا أمام مرآة تكشف عن أعمق تناقضات عصرنا، تاركًا لنا فرصة للتأمل وإعادة النظر في مساراتنا.
إن النيوليبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل هي نهج شامل يعيد صياغة العلاقات الاجتماعية والثقافية. تعتمد النيوليبرالية على تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتعزيز الخصخصة، وتقديم السوق المفتوحة كأفضل وسيلة لتحقيق النمو والرفاهية. غير أن ممارساتها تحمل تناقضات جوهرية، إذ تؤدي إلى تركّز الثروة وتعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتهميش الفئات الضعيفة، وإضعاف الروابط الاجتماعية، مما يهدد التماسك المجتمعي.
في ظل تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية أحدثتها النيوليبرالية، بات الأدب نافذة تعكس هموم المجتمعات وتحدياتها المستقبلية، حيث اتجهت الروايات الديستوبيا النيوليبرالية إلى تصوير الآثار السلبية لهذه السياسات، محذرة من مستقبل قاتم يهيمن فيه السوق والمصالح الفردية على حساب العدالة الاجتماعية. وبينما يشترك الأدب المصري والألماني في توظيف هذا النوع الأدبي لتصوير التداعيات الكارثية للنيوليبرالية، فإنهما يعبران عن ذلك من زوايا مختلفة تعكس الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل منهما.
تعتبر النيوليبرالية نهجًا اقتصاديًا وسياسيًا يقوم على تقليص دور الدولة في الاقتصاد وتشجيع الخصخصة والمنافسة الحرة، مع الإيمان بأن السوق الحر هو السبيل لتحقيق النمو والرفاهية. غير أن هذا النهج أثار جدلاً واسعًا بسبب تأثيراته الاجتماعية السلبية، حيث أدى إلى تركيز الثروة في أيدي قلة من الأفراد، وتعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتهديد الهوية الثقافية والقيم الاجتماعية. إن الأدب النيوليبرالي كان الوسيلة التي عبر بها الكتاب عن هذه المخاوف، حيث صاغوا عوالم خيالية تُظهر بوضوح المخاطر المحتملة لهذه السياسات.
فالرواية “يوتوبيا” والتي قامت بتحذير من مجتمع المستقبل، فالنيوليبرالية ليست مجرد إطار اقتصادي، بل هي أيديولوجيا تؤثر على جميع جوانب الحياة. من خلال تقليص دور الدولة في تقديم الخدمات العامة وتشجيع الخصخصة، فأصبحت النيوليبرالية المحرك الأساسي لتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفي ظل هذه السياسات، يُنظر إلى المواطن كمستهلك، وتُهمش القيم الاجتماعية مثل المساواة والعدالة. إن الأدب النيوليبرالي يأتي هنا ليعكس ما يحدث عندما تصبح هذه المبادئ محور تنظيم الحياة.

الأدب الديستوبي: مرآة للنقد الاجتماعي في عصر النيوليبرالية
الروايات الديستوبية ليست مجرد قصص خيالية تدور في عوالم مظلمة، بل هي تأملات فلسفية عميقة تتناول قضايا الحاضر وتحذر من المسارات التي قد تقود المجتمعات إلى الانهيار. من خلال تصوير مستقبل مظلم، يسلط الأدب الديستوبي الضوء على الآثار السلبية للسياسات النيوليبرالية، التي تضع الربح والنمو الاقتصادي في مقدمة الأولويات، متجاهلة القيم الإنسانية والاجتماعية.
في هذا السياق، برزت رواية “يوتوبيا”، التي قدمت رؤى نقدية حادة حول تأثير النيوليبرالية. ورواية “السحابة” التي تناولت بشكل مختلف تحديات النظام النيوليبرالي، فقد حذرت “يوتوبيا” من تفاقم الانقسام الطبقي في المجتمع المصري، بينما تسلط “السحابة” الضوء على المخاطر البيئية والتكنولوجية التي تهدد القيم الإنسانية في المجتمعات الغربية.
ومن خلال هذه الأعمال، يصبح الأدب الديستوبي أداة لفهم تعقيدات النظام النيوليبرالي وتبعاته الاجتماعية والبيئية، ما يجعل هذه الروايات ليست فقط وسيلة للترفيه، بل منصة للتأمل والنقد والتغيير.
إن رواية “يوتوبيا” لأحمد خالد توفيق تعكس صورة قاتمة لمستقبل مصر، حيث تنبأت بعام 2023 الذي ينقسم فيه المجتمع بشكل حاد بين نخبة غنية منعزلة تعيش داخل مدينة مغلقة وبقية الشعب التي تعاني الفقر والفوضى. فيجسد العمل نقدًا صريحًا للسياسات النيوليبرالية التي تُعمّق الفوارق الطبقية وتُفرّغ المجتمع من قيمه الإنسانية. وفي الرواية، تتحول الطبقة الغنية إلى كيان مغترب يعيش وفق أنماط استهلاكية مستوردة تُهدد الهوية الثقافية المحلية، بينما تُترك الأغلبية لتواجه مصيرها القاسي في ظل غياب العدالة الاجتماعية. يتمحور النقد في “يوتوبيا” حول الفشل في تحقيق التضامن الإنساني، حيث تُختزل العلاقات الاجتماعية إلى مصالح فردية تهيمن عليها قيم الربح المادي. هذا الانقسام بين النخبة والأغلبية لا يُظهر فقط الظلم الاجتماعي، بل يهدد استقرار المجتمع بأكمله، ما يجعل الرواية دعوة للتأمل في مستقبل محفوف بالمخاطر إذا استمرت السياسات الحالية.
على الجانب الآخر، تقدم رواية “السحابة” لجودرون باوزه-فانج منظورًا مختلفًا ولكنه متصل بفكرة الديستوبيا النيوليبرالية، حيث تدور أحداثها حول كارثة نووية تضرب ألمانيا. الرواية لا تكتفي بوصف الكارثة كحادث منفصل، بل تقدمها كرمز لفشل المجتمعات النيوليبرالية في تحقيق التوازن بين التطور التكنولوجي وسلامة البيئة. من خلال شخصياتها وأحداثها، تُبرز الرواية كيف أن الاهتمام الزائد بتحقيق الأرباح الاقتصادية يؤدي إلى تجاهل القيم الإنسانية والتضامن الجماعي، مما يُظهر المجتمعات النيوليبرالية ككيانات هشة أمام الكوارث. الرواية تحذر من الاعتماد الأعمى على التكنولوجيا دون اعتبار للأبعاد الأخلاقية والاجتماعية، مُظهرة كيف أن هذه السياسات تُفاقم معاناة الفئات الأكثر ضعفًا وتتركهم لمواجهة مصيرهم وحيدين.
على الرغم من اختلاف السياقات الثقافية والجغرافية بين الروايتين، إلا أنهما تشتركان في طرح تساؤلات عميقة حول مستقبل الإنسان في ظل النيوليبرالية. ففي “يوتوبيا”، يتمثل الاغتراب في فقدان الهوية الثقافية وتحول النخبة إلى نموذج مقلد للغرب، بينما يتجلى في “السحابة” من خلال الاعتماد المفرط على التكنولوجيا دون اعتبار للقيم الإنسانية. كلا العملين يُظهران كيف تُضعف النيوليبرالية الروابط الاجتماعية، حيث يُختزل الإنسان إلى مجرد مستهلك أو أداة في خدمة السوق.
من خلال هذه الأعمال، يُصبح الأدب نافذة نقدية لاستكشاف تناقضات العصر الحديث. فرواية “يوتوبيا” تحذر من مستقبل قاتم حيث يُترك الفقراء لمصيرهم بينما تنعم النخبة بالرفاهية، في حين تقدم “السحابة” شهادة أدبية قوية على مخاطر السياسات النيوليبرالية على البيئة والمجتمع. الأدب هنا لا يقتصر على كونه انعكاسًا للواقع، بل يتحول إلى أداة تحذير وتحفيز للتفكير في بدائل أكثر عدلًا وإنسانية.
تُبرز هذه الروايات أن النيوليبرالية، بما تحمله من تناقضات، قد تؤدي إلى كوارث اجتماعية وبيئية تفوق التصور. وبينما تُظهر رواية “يوتوبيا” نتائج الانقسام الطبقي وفقدان الهوية الثقافية، وتُركز رواية “السحابة” على الخطر البيئي والتكنولوجي، ما يجعل كلا العملين مرآة تعكس أزمات مجتمعاتنا الراهنة وتُحذر من مستقبل يفتقد للتوازن والعدالة.
على الرغم من الاختلافات بين السياقين المصري والألماني، يتفق الأدبان في تقديمهما رؤية نقدية للنيوليبرالية، حيث تكشف الروايات عن العواقب الكارثية لهذا النظام على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية. إن الروايات الديستوبية ليست مجرد سرد خيالي؛ بل هي دعوة للتأمل والتحذير من سياسات قد تؤدي إلى تدمير التماسك الاجتماعي والهوية الثقافية.
الأدب الديستوبي والنيوليبرالية: مرآة نقدية لتحديات العصر
لطالما كان الأدب نافذة لرصد التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، ومرآة تعكس صراعاتها الداخلية وآمالها ومخاوفها. وفي عصرنا الحالي، حيث أصبحت النيوليبرالية أيديولوجيا مهيمنة توجه الاقتصاد العالمي، يتصدر الأدب الديستوبي المشهد بوصفه وسيلة فعّالة لتحليل تداعيات هذه السياسات على الأفراد والمجتمعات. من خلال تقديم رؤى سوداوية لعوالم متخيلة، يكشف الأدب الديستوبي عن الواقع الكامن وراء هذه التحولات، وينبه إلى المخاطر الكامنة إذا استمر تجاهل التداعيات الاجتماعية والبيئية لهذه الأيديولوجيا.
إن روايات مثل “يوتوبيا” و”السحابة” لا تقتصر على رسم صور مظلمة للمستقبل، بل تحمل في طياتها دعوة صريحة للتفكير النقدي والتغيير. فالأدب الديستوبي هنا ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل صرخة احتجاج ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي، وتحفيز للنقاش حول البدائل التي يمكن أن تعيد التوازن إلى المجتمعات الإنسانية. هذه الروايات تذكّرنا بأن الأمل والعمل الجماعي هما السبيل لتجنب السقوط في عوالم مظلمة كهذه.
ففي ظل العولمة، يكشف الأدب عن تجارب إنسانية مشتركة تجمع بين مجتمعات تبدو متباعدة. من خلال مقارنة الروايات الديستوبية، يظهر بوضوح كيف أن الأدب يتقاطع مع السياسة والاقتصاد ليصبح أداة نقدية تقدم رؤى مستقبلية. فالأدب الديستوبي ليس فقط مرآة للواقع بل قوة تغيير، تجعلنا نتأمل في القيم والخيارات التي تحدد مصيرنا المشترك، وتدفعنا نحو بناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية.
وفي الأدب المصري، تقدم رواية “يوتوبيا” لأحمد خالد توفيق نموذجًا بارزًا لتصوير هذا الواقع. إن الرواية ترسم صورة قاتمة لمجتمع مصري مستقبلي ينقسم إلى نخبة تعيش في رفاهية معزولة، وأغلبية مسحوقة تعيش في الفوضى والبؤس، ومن خلال هذا العمل، يسلط توفيق الضوء على الانقسام الطبقي الحاد، وفقدان التضامن الإنساني، وتبني أنماط حياة استهلاكية مستوردة تهدد الهوية الثقافية المحلية. الرواية لا تكتفي بعرض الخيال بل تحمل رسالة تحذيرية من التوجهات الاقتصادية والسياسية التي تفضل مصالح القلة على حساب العدالة الاجتماعية.
إن الأدب الألماني يعكس في المقابل القلق من النيوليبرالية عبر تناول الكوارث البيئية كرمز للدمار الذي يمكن أن تسببه السياسات التي تضع الربحية فوق الإنسانية. ففي رواية “السحابة” لجودرون باوزه-فانج، تُستخدم الكارثة النووية كخلفية لتسليط الضوء على إخفاق المجتمع في تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي وسلامة البيئة. وتعكس الرواية تأثير النيوليبرالية على الفئات الضعيفة التي تكون الأكثر تضررًا من الكوارث، كما تعبر عن فقدان الثقة في المؤسسات التي يُفترض أن تحمي الإنسان ولكنها تصبح أداة لتعزيز عدم المساواة.
رغم اختلاف السياقات الثقافية، تتقاطع الروايات المصرية والألمانية في تحذيرها من العواقب المدمرة للنيوليبرالية. كلاهما يصور عالمًا متخيلًا مظلمًا يعكس اتجاهات واقعية ويستشرف مستقبلًا قاتمًا إذا استمر تجاهل القيم الإنسانية في ظل السياسات الاقتصادية الحالية. الأدب هنا لا يقدم مجرد خيال سوداوي بل يفتح باب النقاش والتأمل حول قضايا مثل العدالة الاجتماعية، والبيئة، والهوية الثقافية.
الأدب الديستوبي كنافذة لاستكشاف التحديات العالمية
لقد أثبت الأدب الديستوبي براعته في تقديم رؤى نقدية للمستقبل من خلال تقديم عوالم مأساوية تتأثر بتداعيات السياسات النيوليبرالية. تتعدد الروايات التي تسلط الضوء على هذه المسائل، مثل “يوتوبيا” لأحمد خالد توفيق و”السحابة” لجودرون باوزه-فانج، التي تفجِّر أسئلة حيوية حول التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها العالم في ظل تلك السياسات. إن هذه الروايات ليست مجرد خيال سوداوي، بل هي تحذيرات جادة من المخاطر التي قد تواجهها الإنسانية إذا استمرت في السير على الطريق الذي تفرضه النيوليبرالية.
في “يوتوبيا” يقدم أحمد خالد توفيق صورة قاتمة للمجتمع المصري في عام 2023، حيث يعكس بوضوح تداعيات السياسات النيوليبرالية على الانقسام الطبقي. يقول توفيق في إحدى جمله الشهيرة: “عندما يتحول الإنسان إلى وحش جائع، لا يمكنك توقع ردود أفعاله. لقد تجاوزنا كل حدود الإنسانية.” هذه الكلمات تجسد الوضع المأساوي الذي يعيشه المواطنون في هذا المستقبل البائس، حيث تسود اللامساواة وتغيب العدالة الاجتماعية، وتتحول المجتمعات إلى كيانات متناحرة.
أما في “السحابة” لجودرون باوزه-فانج، فتُعرض صورة مقلقة عن تأثيرات التكنولوجيا والطاقة النووية، مع التركيز على الخطر البيئي الذي ينشأ بسبب الطمع الربحي الذي تعززه النيوليبرالية. تقول الكاتبة في أحد مقاطعها المميزة: “التكنولوجيا بلا ضمير هي قنبلة موقوتة في قلب الإنسانية.” هذه العبارة تلخص الجوهر الفلسفي للرواية، حيث تتحدث عن تهديدات التكنولوجيا المتسارعة دون رقابة أخلاقية، مما يؤدي إلى كارثة مدمرة على المستوى البيئي والاجتماعي.
من خلال هاتين الروايتين، نرى كيف يكشف الأدب الديستوبي عن ملامح المستقبل في ظل السياسات النيوليبرالية التي تركز على الربحية وتهميش الإنسان. تكشف هذه الأعمال الأدبية ليس فقط عن التصورات السوداوية للمستقبل، بل عن المأساة التي قد تنجم عن التغاضي عن القيم الإنسانية لصالح المصالح الاقتصادية. وتظهر هذه الروايات أيضًا قدرة الأدب على التحفيز على التفكير النقدي، وتحفز القراء على البحث عن بدائل أكثر عدلاً وإنسانية.
في الختام، لا تقتصر الروايات الديستوبية على كونها ترفًا أدبيًا، بل هي بمثابة مرآة تكشف عن التحديات العالمية التي تواجهها المجتمعات في الوقت الراهن. من خلال التفاعل مع هذه الأعمال الأدبية، يُدعى القارئ إلى النظر بعمق في القضايا الاجتماعية والسياسية والبيئية التي نواجهها، وإلى التفكير في مستقبل يمكن أن يتحقق إذا استمرت السياسات النيوليبرالية في الهيمنة على النظام العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى