
رأيتُهم ، في مقطع ڤيديو متداول ، رصدته كاميرات المسجد ، يصلون خلف الإمام ، فسقط الأخير فجأةً ، مغشياً عليه ، أثناء صلاته بهم ، ربما فاجأته أزمة قلبية ، فتقدم أحدهم ، لا ليُسعفه ، بل ليُكمل الصلاة ! يا إلهي ، أهذا كل ما يشغل المصلين الآن ؟! الذين ربما مات إمامهم ، وربما أيضاً كان بإمكانهم إنقاذه ، لكنهم لم يفعلوا ، إذ ملأت التقوي قلوبهم ، وخافوا علي ضياع ثواب الجماعة ! فهي تعدل ثواب صلاة المرء منفرداً ،بسبع وعشرين درجة ! أما هذا الذي يموت بين أيديهم ، فيقيناً سنري ما يمكن فعله لاحقاً ، بعد الفروغ من الصلاة ! فقطع الصلاة مستحيل !
……………..
تمنيتُ لو لم أرَ هذا الڤيديو المُحزن المُخزي ، تمنيتُ لو كان مفبركاً .
هؤلاء المصلون ! لم يفقهوا شيئاً عن الصلاة ! بل عن الدين نفسه ! أخذوا ظاهره ، بلا عقل ، وألقوا جوهره ، بلا ضمير ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا..
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ، لا فكر ، لا قلب ، لا رحمة ، لا حنان !
قد يسأل بعضهم ، هل يُدرج ( الحَنان ) في قائمة أولويات الدين واهتماماته ؟
دينٌ يسعي نحو العدل والصدق والأمانة ، هل يُلقي بالاً بقيمة إنسانية ، بسيطة وهينة ، كالحَنان ؟
والجواب ، إنما الدين نفسه حنان ، والحياة لا تستقيم إلا بالحنان ، وهو سر أسرار السعادة علي الأرض ، والسبيل للجنة الموعودة ، والفوز المنشود .
السموات والأرض والجبال ، والنجوم والكواكب ، والبحار والمحيطات ، لا يستقرون جميعاً ، إلا بمنظومة علم ، تحركها الدقة والإبداع ، وكذلك الحنان ! فبدونه ، قد تخرج الأشياء عن مساراتها ، وقد يكون الهلاك ..
البيوت ، وكما تخربها القسوة ، يعمرها الحنان ، والألم يطيب بالحنان ، والبعيد يقترب بالحنان ، والصعب يسهل بالحنان ، فالحنان حتماً يبلسم الجراح ، ويبعث دوماً علي الارتياح ..
ربي وربكم ، جلت قدرته ، هو الحنَّان ، بمعني عظيم الحنان ، شديد الرحمة .
والحنان كلمة ما أجمل معناها ، وما أرق مغزاها ، كلمة طيبة الوقع ، عظيمة النفع ، شجرةٌ ما أورفَ ظلالَها ، وما أعمقَ جذورها .
الحنان إلهام الشعراء ، وإبداع العازفين ، وشجن المبدعين ..
هل تعرفون أبا عُمَيرٍ ؟
طفلٌ لا يتجاوز عُمرُه ثلاث سنوات ، وهو أخٌ للصحابي الجليل ، أنس بن مالك ، رضي الله عنه .
زار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، صاحبه أنساً في بيته ، فرأى الطفل الصغير جالساً على الأرض ، يحتضنُ عصفوراً صغيراً مريضاً ، والدموع تنهمر من عينيه .
فاحتضنَه رسول الله ( ص ) وحنا عليه ، كعادته مع الناسِ أجمعين ، وقال له :
يا أبا عُمَيرٍ ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟ والنُّغَيرُ تَصغيرُ النُّغَرِ ، وهو طائِر صَغير كالعُصفور ، فتبسم الطفل الباكي ، إذ لقبَه رسول الله ( ص ) كما يُلقَب الكبار ، احتراماً وتقديراً ، فقال له : أبا عُمَيرٍ ! ولأنَّ رسول الله ( ص ) هو الوحيد الذي سأله عن عصفوره ، فيما لم يسألْ عنه أحدٌ غيرُه قط !
ويكرر رسول الله ( ص ) الزيارة ، يفتح أنس الباب ، يدخل ( ص ) مُسرعاً ، ويتوجه مباشرةً إلى أبي عُمَيرٍ ، ويسأله بعطفٍ وحنوٍ : يا أبا عُمَيرٍ ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟ فيرمى أبو عُمَيرٍ بنفسه في حِضن رسول الله ( ص ) وهو يبكي ويقول : لقد ماتَ النُّغَيْرُ ، لقد ماتَ .
فظلَ ( ص ) يُداعبه ويلاطفه ، وقضي معه ساعاتٍ طويلةً ، ولم يتركه ( ص ) حتي هدأتْ نفسه .
هل كان رسول الله ، خاتمُ النبيين ، وإمامُ المرسلين ، وقائدُ الأمة وجيوشها ( ص ) يمتلك رفاهة الوقت ، ليُضيعَ قدراً كبيراً منه ، مع طفل صغير ، ومن أجل عصفور ؟ مفخماً ، ومداعباً ، وحانياً ، ومؤنساً !!
هي أخلاق النبي ( ص ) من ناحية ، ورسالةُ الدين الحقيقيةُ ، من ناحية أُخري ، وهو المعني الأسمي للحنان .
كان نبينا ( ص ) أكثر البشر حناناً ، وسلوا زوجاته ، أمهات المؤمنين ، سلوا أصحابه الأخيار ، والتابعين الأطهار ، سلوا عنه أهل الذمة ، بل سلوا الشجر ، سلوا الجمل الشاكي ، سلوا جذع النخلة الباكي ، سلوا ناقة هجرته ، وعنكبوت غاره ، أقول لكم ، بل سلوا أعدائه : اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ .. تأملتُ الدنيا كلَها ، بما فيها ، وبِمَنْ فيها ، فلم أجدْ أعظمَ من الحنان ، ووجهه الآخر ، وهو الرحمة : فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ .
و رحمةُ ربِك وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، والمؤمنون رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ، ونبيُهم رَءُوفٌ رَحِيمٌ .
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ ، كَتَبَ في كِتَابِهِ ، فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ : إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي .
صدقتَ ، نبيَ الإنسانية ، يا مَنْ قال فيكَ ربُك : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، يا مَنْ قُلتَ عن نفسِك : إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ..
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ ..
هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ ..
قالَ ( ص ) في المرأةِ مع الرضيعِ ، ألْصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وأَرْضَعَتْهُ : أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا : لَا ، وهي تَقْدِرُ علَى ألَّا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : لَلَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا .
وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا ..
ما هذا الجمال ! الحنان ، منك يا الله ، وتُقدمُه علي الزكاة ، وعن التقوي نفسها ، ثم تُعقب ذلك كله ، ببر الوالدين : وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ..
طبعاً مستحيل أن يكون جَبَّارًا عَصِيًّا ، إذ مُنِحَ الحنانَ أولاً : وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا ..
موسى عليه السلامُ ، لما دفنَ أخاه هارونَ ، عليه السلامُ ، ذكرَ مفارقتَه له ، وظُلمةَ القبرِ ، فأدركتْه الشفقةُ ، حناناً علي أخيه ، فبكى ، فأوحى اللهُ تعالى إليه : ياموسى : لو أذنتُ لأهلِ القبورِ أن يُخبروكَ بلُطفي بهم ، لأخبروك .
ياموسى : لم أنسْهم على ظاهرِ الأرضِ ، أحياءَ مرزوقين ، أفأنساهم في باطنِ الأرض مقبورين !
ياموسى : إذا ماتَ العبدُ ، لم أنظرْ إلى كثرةِ معاصيه ، ولكنني أنظرُ إلى قلةِ حيلتِه .
أوليس هذا عطفاً ، أوليست هذه رحمة ، أوليس ذلك حناناً من الله علي عباده .
إذن ، إذا رأيتم أحدهم ، يصوم النهار ويقوم الليل ، ويتلو كتاب الله ، آناء الليل وأطراف النهار ، ورأيتموه غليظ القلب ، فاقد الحنان ، فأخبروه : لا تُجهد نفسك بهذه العبادات كلها ! فليس لك منها إلا التعب ، وهي مردودة عليكَ ! فالله طيب حنون ، لا يقبل إلا الطيب ، فما خلقنا سبحانه ، غلاظ النفوس ، قساة القلوب ، إنما خلقنا رحماء ، لنحنو علي البشر والدواب والشجر ، وكل مَا خَلَقَ ربي وَذَرَأَ .
كان لأرملة ، ابن وحيد ، عاشت من أجله ، وتفانت في رعايته وتعليمه ، فلما قوي ساعده ، واشتد عوده ، قرر أن يتركها ويسافر ، قالت له أتتركني وحيدة ، يا ولدي ؟! فقال لها : سامحيني يا أمي ، ولا تقفي في طريق سعادتي ومستقبلي !
سافر الابن ، وكانت تراسله دوماً ؛ لتطمئن عليه ، والابن لا يرد عليها !ففكرت في حيلة ذكية ،
وأرسلت إليه خطاباً ، تقول فيه : ولدي الحبيب ، لقد ورثتُ عن عمي قطعة أرض كبيرة ، وأصبح عندي الكثير من المال ، فإذا احتجت لشئ ، أرسل لي فوراً ، بكل ما تريده ، وسيكون عندك ، في أسرع وقت .
وبالفعل نجحت الخطة !
فكان يرسل لها خطاباً ، كل أسبوع ، يطلب منها نقوداً ، وكانت لا ترد له طلباً ، والغريب في الأمر ، أنها لم تكن حزينة ، من موقف ابنها ، بل كانت تلتمس له الأعذار ، وكان الأهم عندها ، أنها الآن سعيدة ؛ لأنه أصبح يخاطبها ! على الرغم من كونه يفعل ذلك ، فقط من أجل مصلحته ، وليس حباً فيها ، أوعطفاً عليها ، ولكنها لم تعبأ بهذه الأمور ، وتلك الحسابات !
وبعد ثلاثة أشهر ، انقطعت خطابات الأم ، وانقطع كذلك ردها علي خطاباته ، فهاتف الابن أحد جيرانها ، فاخبروه أنها ماتت ، فأسرع إليها ، لا حزناً عليها ، بل ربما ليرث ما تبقى لديها من مال .
فإذا به يجد بيتها يسكنه رجل غريب ، وعندما سأله مَنْ أنتَ ؟ قال له : لقد باعت أمك ليَّ هذا المنزل ، منذُ فترة .
ويخبره جيران أمه بالقصة كاملةً ، إذ ساءت حالتها ، واشتد مرضها ، في أيامها الاخيرة ، خاصةً بعدما باعت جميع مقتنياتها ، وأثاث منزلها ، ثم باعت منزلها نفسه ! ولم تكن تهتم بصحتها ، ولا تداوي مرضها ، ولا أحد يعلم ، أين انفقت كل هذه الأموال ، التي حصلت عليها ، مقابل ما باعته ؟!
عندها ، انهار الشاب بكاءً وحزناً ، ألماً وحسرةً ، حُبست أنفاسه ، وانقطع صوته ، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت ، ولم يعد بوسعه أن يقول شيئاً ! أي شئٍ !
عاشت الأم وماتت ، وأهملت عافيتها ، وباعت مالديها ، باحثةً عن شئ واحد ، هو الحنان ، والآن يبحث ابنها عن هذا الحنان نفسه ، فلا يجده ، ولن يجده ، و أَنَّى لَه هَذَا ؟!
أيها الناس ، تخلقوا بأخلاق الله ، ولا تفقدوا إنسانيتكم ، وعليكم بالرحمة والحنان ، مع جميع الخلائق ، وكل البشر ، وبخاصة الأحبة ، فالفقد موجعٌ ، الفقد مؤلمٌ ، الفقد مرٌ ، والندم لا يرد ظلماً ، ولا يعيد غائباً ، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ..