محاضرة عن التحولات الجيوسياسية بالشرق الأوسط على مائدة “الأعلى للثقافة”

تحت رعاية وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، والدكتور أشرف العزازى؛ الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، عقدت محاضرة: (التحولات الجيوسياسية فى منطقة الشرق الأوسط وتأثيرها على الأمن القومى المصرى)، وقدمتها الإعلامية هند الضاوى، وذلك ظهر اليوم الأحد الموافق 17 أغسطس 2025، بقاعة المجلس الأعلى للثقافة، وقد جاءت هذه الفاعلية الثقافية فى إطار مبادرة (القوة فى شبابنا)، وشهدت حضورًا كبيرًا من الشباب المهتمين بمتابعة تطورات القضايا السياسية الشرق أوسطية والدولية، وانعكاساتها على توجهات السياسة المصرية الخارجية.
تناولت الإعلامية هند الضاوى ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من تحولات جيوسياسية عميقة فى الآونة الأخيرة تتمثل فى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، علاوة على تصاعد الصراع بين القوى الكبرى، وتنامى التهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب والميليشيات العابرة للحدود، وهو ما ينعكس مباشرة على الأمن القومى المصرى؛ فلا شك أن “مصر” تواجه عدة تحديات استراتيجية تتعلق بأمنها المائى فى ملف سد النهضة، وأمن حدودها مع “ليبيا” و”السودان”، إضافة إلى مخاطر عدم الاستقرار فى “قطاع غزة” و”سيناء”، فضلًا عن تهديد الملاحة فى البحر الأحمر وقناة السويس الذى يمس شريانها الاقتصادى الحيوى، ومع ذلك تمتلك مصر فرصًا واعدة لتعزيز مكانتها عبر قوتها العسكرية وموقعها الجغرافى ومكانتها كمركز إقليمى للطاقة والغاز، إلى جانب دورها الدبلوماسى كوسيط فى مختلف أزمات المنطقة، وهو ما يجعل التوازن بين حماية الداخل وتوسيع النفوذ الإقليمى ضرورة للحفاظ على أمنها القومى واستقرارها فى ظل بيئة إقليمية مضطربة، وتابعت مشيرة إلى ما يشهده العالم اليوم من تحولات جذرية فى بنية النظام الدولى، والتى انعكست بالتبعيّة على الأمن القومى المصرى؛ فالنظام العالمى ليس ثابتًا، بل هو إطار تاريخى يتغير مع تغير موازين القوى؛ ففى مطلع القرن التاسع عشر، أعلن الرئيس الأمريكى “جيمس مونرو” عام 1823 ما عُرف بـ”مبدأ مونرو”، الذى أكد رفض “الولايات المتحدة” أى تدخل أوروبى فى القارة الأمريكية، وأعلن بداية استقلال السياسة الخارجية الأمريكية، وهذا المبدأ شكَّل الأساس لهيمنة “الولايات المتحدة” لاحقًا، خاصة بعد انهيار “الاتحاد السوفيتى” عام 1991؛ حيث دخل العالم مرحلة أحادية القطب بقيادة “واشنطن”، التى سيطرت على المؤسسات الاقتصادية والسياسية الدولية، والتى جابهت تحديات عدة ظهرت مع صعود قوى دولية جديدة؛ فقد تحولت “الصين” إلى قوة اقتصادية عظمى، واستعادت “روسيا” قدراتها العسكرية، فى حين تبحث قوى إقليمية مثل “تركيا” و”إيران” و”الهند” عن أدوار أوسع، كما جاءت حرب “أوكرانيا” عام 2022 حاملة فى طياتها لحظة فاصلة للصراع على تشكيل النظام العالمى، إذ اعتبرت “موسكو” توسع حلف “الناتو” تهديدًا وجوديًا، بينما رأت “الولايات المتحدة” وحلفاؤها فى المواجهة وسيلة للحفاظ على هيمنة النظام الغربى؛ فلم تكن مجرد نزاعًا محليًا، بل اختبارًا يوضح إذا كان العالم سيبقى تحت قيادة أمريكية منفردة أم سيتجه إلى تعددية قطبية، خاصةً فى وجود ثروات “أوكرانيا” المعدنية التى تُقدَّر بين 14 و16 تريليون دولارًا أمريكيًا، مما يجعلها جائزة استراتيجية ضخمة لا يمكن أن تسمح “الولايات المتحدة” بتركها إلى “روسيا”؛ فالحرب هناك تتجاوز الحدود إلى الصراع على الموارد التى تحدد مستقبل التكنولوجيا والطاقة؛ كما تمثل “تايوان” مركزًا لصناعة أشباه الموصلات عالميًا، وهو ما دفع السيناتور الأمريكى “ليندسى جراهام” إلى التأكيد أن “واشنطن” لن تقف مكتوفة الأيدى إذا غزت “الصين” “تايوان”، فى إشارة إلى أن الصراعات الكبرى اليوم صارت تتمحور حول السيطرة على الثروات التى سترسم بدورها ملامح النظام الدولى الجديد.
ثم تابعت موضحة أن فاتورة الأسلحة الأمريكية التى أنتجتها الولايات المتحدة لصالح “إسرائيل” إبان حرب غزة المندلعة أواخر عام 2023، وصلت إلى قرابة 600 مليار دولار أمريكى، وهو ما يعكس كيفية تحول الصراعات المحلية إلى جزء من حرب بالوكالة بين القوى الكبرى، وما يتعلق بذلك من تدفق للأسلحة والتمويل والتكنولوجيا العسكرية بشكل غير مسبوق، وهذه الحرب لم تهدد فقط استقرار الشرق الأوسط، بل عمّقت أيضًا أزمة الاقتصاد العالمى، ورفعت من تسارع وتيرة معدلات التضخم، وهو ما ضاعف الضغوط على الممرات البحرية الحيوية مثل البحر الأحمر وقناة السويس، مما وضع الأمن القومى المصرى فى قلب المعادلة؛ حيث تصاعد التنافس على الطاقة والممرات البحرية، وبرزت أهمية غاز شرق المتوسط والخليج بعد أزمة الطاقة الأوروبية، وأكدت أن الدول الصناعية الكبرى أدركت جيدًا أن استمرار قوتها مرهونًا بتأمين احتياجاتها من المواد الخام ومصادر الطاقة، وهو ما حوّل الشرق الأوسط إلى محور للصراع العالمى بفضل ما يملكه من احتياطات هائلة من النفط والغاز والمعادن الاستراتيجية؛ ويُعدّ ما جرى فى سوريا نموذجًا واضحًا لذلك؛ إذ تحولت الثورة الشعبية منذ عام 2011 إلى ساحة صراع إقليمى ودولى، دخلت فيها “الولايات المتحدة” وحلفاؤها، أمام “روسيا” و”إيران” من جهة أخرى، ما كشف كيف أن التدخلات الخارجية لا تهدف فقط إلى دعم طرف أو آخر، بل إلى إعادة رسم خرائط النفوذ والسيطرة على منابع الطاقة وممرات التجارة الحيوية، وهو ما يعكس بوضوح موقع الشرق الأوسط كركيزة أساسية فى النظام العالمى المتشكل، وواصلت محذرةٌ من أن تؤول التحولات الجيوسياسية فى الشرق الأوسط إلى مخطط التقسيم الذى طرحه المؤرخ الأمريكى البريطانى “برنارد لويس”، حينما دعا إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية إلى عدة دويلات طائفية وعرقية صغيرة، بما يضمن عدم نشوء قوة إقليمية كبرى تهدد دول الغرب أو “إسرائيل”، وهو ما وجد صداه لاحقًا فى مشاهد تفكك “العراق” و”سوريا” و”السودان” وتصاعد النزاعات الداخلية فى المنطقة، وفى هذا السياق استثمر “بنيامين نتنياهو” فى هذه الرؤية للترويج لمفهوم “إسرائيل الكبرى”، معتبرًا أن تفكك دول المنطقة هو الشرط الموضوعى لتمدد “إسرائيل” وهيمنتها على الشرق الأوسط بأسره وما يحتويه من ثروات طبيعية وممرات مائية دولية حيوية، إذ صرّح الأخير فى أكثر من مناسبة بأن إقامة “إسرائيل الكبرى” ليس حلمًا؛ بل إن هذا نتيجة طبيعية لانهيار الدول العربية من حولها نحو صياغة شرق أوسط جديد.
وفى مختتم حديثها أكدت أن العالم يُقبل على مرحلة انتقالية ستقودنا إلى نظام دولى متعدد الأقطاب؛ تتقاسم فيه “الولايات المتحدة” و”روسيا” والصين النفوذ، وقد يزداد فيه دور “المملكة المتحدة” بطبيعية الحال، وأوضحت أننا سنشهد فى الفترة القادمة سعى “واشنطن” فيه إلى تحقيق انتصارًا استراتيجيًا دون الانجرار إلى حرب عالمية مفتوحة، عبر استخدام أدوات اقتصادية وتحالفات سياسية وعقوبات ذكية، وهو ما سيضع بدوره أعباءً إضافية على “مصر”، التى تواجه تحديات حيوية تتعلق بأمنها المائى فى ملف سد النهضة، وأمن حدودها مع “ليبيا” و”السودان”، فضلًا عن تهديدات الملاحة فى البحر الأحمر وقناة السويس، لكنها فى الوقت نفسه تمتلك فرصًا استراتيجية بفضل موقعها الجغرافى، وقوتها العسكرية، ودورها كوسيط إقليمى، مما يدفعها إلى مضاعفة سعيها نحو الحفاظ على توازن استراتيجى مستقر مع القوى الكبرى، فضلًا عن تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، وتسخيرها فى حماية أمنها القومى وضمان استقرار مكانتها فى عالم بات مضطربًا، ويعاد تشكيله بطريقة دراماتيكية.