بين رواية “الفيل الأزرق” لأحمد مراد ورواية “التحول” لفرانز كافكا..( رحلة إلى أعماق النفس البشرية)
الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه
إن العديد من الروايات الأدبية تتناول قضايا الصحة النفسية والتحولات الداخلية التي يمر بها الأفراد، حيث يبرز الصراع الداخلي والفهم العميق للذات كأحد المواضيع المحورية. بين الأدب العربي والأدب الأوروبي، نجد أن روايتين من أبرز الأعمال الأدبية تتناولان هذا الموضوع بطرق فريدة ومؤثرة، هما رواية “الفيل الأزرق” للكاتب أحمد مراد ورواية “التحول” للكاتب فرانز كافكا.
فعلى الرغم من الفروق الثقافية والزمنية، فإن الروايتين تتشابهان في تسليط الضوء على أزمات نفسية معقدة والتفاعل مع البيئة الاجتماعية، مما يعكس بعض أوجه التشابه المثيرة في معالجة هذه القضايا.
فرواية “الفيل الأزرق” لأحمد مراد تدور أحداثها في مصر المعاصرة، حيث يعالج المؤلف مواضيع الصحة النفسية والجريمة من خلال شخصية الدكتور يحيى راشد. إن مراد يركز على الخلفية النفسية لشخصياته، ويعكس تعقيدات المجتمع المصري في تعاملاته مع القضايا النفسية، فبطل الرواية يواجه تحديات شخصية ونفسية بعد فقدانه لعائلته في حادث مروري. وعند قراءتنا للرواية نجد انها مليئة بالغموض والإثارة النفسية.
ومن جهة أخرى، تدور أحداث رواية “التحول” لفرانز كافكا في المجتمع الأوروبي في أوائل القرن العشرين، وهي تروي قصة جريجور سامسا، رجل الأعمال، الذي يفيق ذات صباح من نومه ليكتشف أنه تحول إلى حشرة ضخمة. إن كافكا يستخدم التحول الجسدي كرمز للاحتقار والاغتراب، وتعكس الرواية معاناة الإنسان في مواجهة السلطة الاجتماعية والاقتصادية والأسرية.
إن رواية “الفيل الأزرق” تدور أحداثها في مصر المعاصرة، حيث يتناول الكاتب موضوعات الصحة النفسية من خلال شخصية الدكتور يحيى راشد، الذي يواجه تحديات نفسية معقدة بعد فقدانه لعائلته في حادث مروري. فالرواية تُظهر التوتر النفسي والصراع الداخلي الذي يعانيه يحيى بعد الحادث، ويعيش في عزلة تامة حتى يعود إلى عمله في مستشفى العباسية.
ويتخذ الكاتب أحمد مراد من البيئة المصرية خلفية غنية تساهم في تسليط الضوء على التفاعلات المجتمعية مع القضايا النفسية والجريمة.
على الجانب الآخر، تقع أحداث رواية “التحول” في أوروبا في بداية القرن العشرين، حيث يروي كافكا قصة جريجور سامسا، رجل أعمال يفيق ليكتشف أنه قد تحول إلى حشرة ضخمة، فيقدم كافكا الرواية على خلفية اجتماعية متجذرة في قضايا الفقر والاغتراب الاجتماعي، وهنا يمثل التحول الجسدي لجريجور رمزية للاحتقار والنبذ الاجتماعي، كما يعكس معاناة الفرد في مواجهة السلطة الأسرية والمجتمعية. إن الرواية تُظهر ببراعة كيف يتعامل جريجور مع تحولاته الجسدية والعزلة الاجتماعية التي يعاني منها بعد هذه التحولات الغريبة.
ففي “الفيل الأزرق”، يُظهر أحمد مراد الشخصية الرئيسية، الدكتور يحيى، وهو يعاني من صراع داخلي عميق بعد الحادث الذي فقد فيه زوجته وابنته، هذا الشعور بالذنب والتأنيب ينعكس على حياته اليومية، مما يجعله ينغلق على نفسه لفترة طويلة. لكن مع مرور الوقت، يبدأ يحيى في مواجهة نفسه ومشاعره من خلال تناول حبوب الفيل الأزرق، التي تجلب له تجارب هلوسة تكشف جوانب خفية من ذاته وتساعده على معالجة الألم النفسي الذي يحمله. إن رحلة يحيى نحو الشفاء ليست فقط جسدية، بل نفسية أيضًا، حيث يضطر لمواجهة ماضيه الأليم لتحقيق توازن نفسي.
أما في “رواية التحول”، فإن الصراع الداخلي يظهر من خلال التحول الغريب لجريجور سامسا بطل الرواية، الذي تحول إلى حشرة ضخمة، فبينما يحاول جريجور التكيف مع حالته الجديدة، يظل يعاني من الشعور بالاغتراب والعزلة. إن تحول جريجور الجسدي هذا يمثل في جوهره تحولًا داخليًا حقيقيًا، إذ يواجه معاناته النفسية والاجتماعية بعد أن أصبح غير قادر على الوفاء بتوقعات المجتمع والعائلة. هذا التحول، على الرغم من كونه جسديًا، يفتح الباب أمام تأملات حول الهوية، المسموح والممنوع في المجتمع، والعلاقة بين الفرد والآخرين.
وفي رواية “الفيل الأزرق”، يعكس أحمد مراد اغتراب البطل “يحيى” عن العالم من خلال عزلته النفسية بعد الحادث، حيث ينزوي عن الحياة الاجتماعية والمهنية. إن رفض يحيى التعامل مع واقعه، واللجوء إلى الهلوسة والمخدرات كوسيلة للهروب، يعكس محاولة غير مثمرة للهروب من الصراع الداخلي، ومع تقدم الرواية، يبدأ يحيى في تقبل ذاته ومواجهة الألم، ويكتشف أن التواصل مع الآخرين والمجتمع هو جزء من عملية الشفاء.
أما في رواية “التحول”، يظهر الاغتراب بشكل أعمق وأوضح، حيث يواجه البطل “جريجور” فقدانًا تامًا للتواصل مع عائلته والمجتمع. فتحوله الجسدي إلى حشرة يمثل العزلة الجسدية والنفسية التي يعاني منها، ويؤدي إلى انهيار الروابط الأسرية والاجتماعية. بينما يرفض أفراد أسرته التواصل معه، يظل جريجور يواجه معاناة من نوع خاص، ألا وهي معاناة الوجودية، التي تجعل من وجوده عبئًا عليهم.
وعلى الرغم من الاختلافات في السياق الزمني والمكاني بين الروايتين، إلا أن كلا منهما يعكس رحلة معقدة نحو الشفاء النفسي، ففي رواية “الفيل الأزرق”، يتم الشفاء النفسي من خلال مواجهة الذات والتعامل مع الماضي الأليم، بينما في رواية “التحول”، يصبح الشفاء مستحيلًا بسبب الاغتراب الداخلي والخارجي الذي يعاني منه جريجور. ففي حين أن يحيى في “الفيل الأزرق” يجد بصيص أمل في الشفاء من خلال التفاعل مع العالم الخارجي، فإن جريجور في “التحول” لا يستطيع تجاوز عزلته المعنوية والجسدية، مما يؤدي إلى نهايته المأساوية.
إن رواية “الفيل الأزرق” و رواية “التحول” يمثلان مثالين مميزين للأدب الذي يتناول قضايا النفس البشرية والتحولات التي يمر بها الأفراد بسبب الأحداث الصادمة. ومن خلال معالجة موضوعات مثل العزلة، والاغتراب، والتحولات النفسية والجسدية، تقدم الروايتان رؤية فريدة عن الصراع الداخلي للأفراد. تبرز هذه الروايات كيف أن المعاناة النفسية والاغتراب الاجتماعي قد يؤديان إلى انهيار الشخصيات أو إلى نضوجها، وكل رواية تعكس تصورًا مختلفًا لرحلة الشفاء أو الانهيار النفسي.
الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا