عاجلمقالات

الحضارة المصرية في الغرب

بقلم أ.د.ابراهيم حامد عبداللا عميد كلية الالسن جامعة بني سويف الأسبق

إن كتاب “الأيجيبتومانيا والاستشراق، دراسة في تأثير الثقافة المصرية القديمة على الفكر الغربي”، ويصف مصطلح “الأيجيبتومانيا” الولع والشغف بالحضارة المصرية القديمة الذي انتشر في الثقافة الأوروبية، وخاصة الثقافة الألمانية، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويعتبر هذا الكتاب دراسة مهمة تتناول صورة مصر كما تم تصويرها في الأدب الألماني على مرّ العصور سواءًا القديم منها والحديث. إن هذا الكتاب هو في الأصل رسالة دكتواره للباحث المصري عباس أمين نال به درجة الدكتوراة من جمهورية المانيا الاتحادية ضمن تصنيف أدب الرحلات ومطبوع باللغة الألمانية. وفي رأيي الشخصي أن الكتاب يضم بين طياته اكثر من هذا الجنس الأدبي، نظرا لأنه يتناول كيف تأثرت صورة مصر بالتصورات الغربية عن الشرق، ويستعرض تأثير الاستشراق على فهم الثقافة المصرية القديمة والحديثة. ومن خلال تحليل النصوص الأدبية يقدم الكتاب رؤى حول كيفية استقبال الألمان لمصر وتأثير ذلك على الثقافة الأوروبية. كما أن “الاستشراق” هو مصطلح يشير إلى الدراسة الغربية للثقافات الشرقية، وخاصة الإسلامية، ولقد لعب هذا العلم دورًا بارزًا في تشكيل التصورات الغربية عن الشرق، بما في ذلك مصر، وكيف أن هذه التصورات غالبًا ما كانت مشوهة أو مبنية على أساطير وخرافات بدلاً من الحقائق التاريخية.

 

كما يُعد الكتاب من الأعمال المهمة التي تتناول التأثيرات المتبادلة بين الثقافات الشرقية والغربية، وبالأخص تأثير الثقافة المصرية القديمة على الفكر والفن الغربي. ويعكس هذا الكتاب كيفية تطور اهتمامات الغرب بمصر القديمة، وكيف أن هذه الاهتمامات لم تكن مجرد فضول تاريخي، بل كانت مرتبطة بتصورات سياسية وثقافية أوسع. وسنعرض في هذا المقال بعض المحاور الأساسية التي يتناولها الكتاب وأهم أفكاره.

 

فمفهوم الأيجيبتومانيا أو الولع بالحضارة المصرية القديمة، حيث يعرف المصطلح كظاهرة ثقافية نشأت في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد أبدى الغربيون اهتمامًا متزايدًا بمصر القديمة، ويرتبط هذا الاهتمام برؤية جديدة للتاريخ، تتجاوز المفاهيم التقليدية، وتبحث عن مصادر الإلهام في الثقافات القديمة، وقد استخدم الفنانون والمفكرون الغربيون الرموز المصرية في أعمالهم، مما أضفى طابعًا غريبًا ومثيرًا على الثقافة الغربية.

 

وينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تناول الأبعاد السياسية والثقافية للأيجيبتومانيا، وكيف أنها لم تكن مجرد اهتمام ثقافي، بل كانت مرتبطة أيضًا بتغيرات سياسية، فاستغل الاستعمار الغربي التاريخ المصري القديم لتعزيز الهيمنة الثقافية والسياسية، وهنا رأت القوى الاستعمارية في مصر كنزًا من الموارد التاريخية والثقافية التي يمكن استغلالها. لذا، يمكن أن تُفهم الأيجيبتومانيا كجزء من استراتيجية أوسع للتوسع الاستعماري.

 

يمثل الفصل المتعلق بالفن في الكتاب دراسة متعمقة لتأثير مصر القديمة على الفنون الغربية، فنجد أن العديد من الفنانين والكتّاب استخدموا الرموز والأشكال المصرية لتصوير أفكارهم، ويمكن ملاحظة ذلك في أعمال رسامين مثل “جان ليو” (1824-1904) و”جان أوجست دومينيك إنجرس” (1780-1867)، حيث استلهموا من الفن المصري في تشكيل أعمالهم، وقد مثلت هذه الأعمال مزيجًا من العناصر التقليدية المصرية والتقنيات الأوروبية، مما يعكس تفاعل الثقافتين.

 

كما يستعرض الكتاب أيضًا كيف أن الأديان والأساطير المصرية القديمة كانت مصدر إلهام للعديد من الحركات الروحية والفكرية في الغرب، وقد تزايد الاهتمام بالأديان الشرقية في القرن التاسع عشر، وبدأ المثقفون الغربيون في دراسة النصوص المصرية القديمة وتأثيرها على الفكر الديني، حيث ظهر ذلك جليًا في أعمال المفكرين والفلاسفة الألمان مثل فريدريش نيتشه (1844-1900)، الذي استلهم بعض أفكاره من الأساطير المصرية.

 

وقد تناول الكتاب أيضًا الأبعاد النقدية لهذا الاهتمام، مشيرًا إلى كيفية استخدام الأيجيبتومانيا لتبرير الهيمنة الاستعمارية. فمن خلال تحليل الرموز والأشكال المصرية، استطاع المفكرون الغربيون بناء صورة مثالية عن مصر القديمة تتناسب مع رؤاهم الثقافية والسياسية، ويعكس هذا عدم فهم دقيق للثقافة المصرية، بل مثل تكييفًا لاحتياجاتهم.

 

يناقش الكتاب أيضًا الصراع المستمر بين الثقافة الشرقية والغربية، حيث يظهر الكتاب كيف أن الأيجيبتومانيا كانت تسعى في بعض الأحيان إلى دمج الثقافات، وفي أحيان أخرى كانت تُعبر عن الهيمنة الغربية، ويبرز ذلك في العلاقة بين الفلاسفة والمفكرين الغربيين مع ثقافات الشرق، وكيف أن هذا التفاعل ساهم في بناء تصورات سلبية وإيجابية على حد سواء.

 

يُشير الكتاب إلى أن تأثير الأيجيبتومانيا لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا، حيث تستمر الثقافة الشعبية في استخدام الرموز المصرية. فالأفلام، والموسيقى، والأدب، كلها تعكس هذا الاهتمام المستمر، الأمر الذي يُظهر كيف أنها تطورت عبر الزمن، لكنها لم تفقد قوتها في التأثير على الفنون والثقافة.

 

يُعتبر كتاب ” الأيجيبتومانيا والإستشراق” دراسة شاملة تعكس تفاعل الثقافات وأثر التاريخ على الحاضر، كما يُجسد الكتاب كيف أنها لم تكن مجرد اهتمام سطحي بالثقافة المصرية، بل كانت جزءًا من حوار ثقافي أعمق، يحمل في طياته العديد من الأبعاد السياسية والنقدية. إن فهم هذه الموضوعات يساعدنا على فهم العلاقات الثقافية المعقدة بين الشرق والغرب، وكيف يمكن أن تؤثر في تشكيل الهويات الثقافية والسياسية على مر الزمن.

 

وانتقل الكتاب إلى الجزء الثاني الذي يتناول الاستشراق فاعتبره وسيلة لفهم الثقافات المختلفة، إلا أنه أيضًا ساهم في تعزيز الصور النمطية السلبية عن الشرق. فبعض الباحثين يرون أن الاستشراق ساعد في توطيد الهيمنة الغربية على الدول الشرقية من خلال تقديمها كأماكن غريبة وغير متطورة. هذا الانقسام بين الفهم العلمي والتصورات الخيالية هو محور النقاش في “الأيجيبتومانيا والاستشراق”.

فهو يرى أن السياح والرحالة الألمان قد أثروا على فهمهم لمصر وكيف ساهمت كتاباتهم في تشكيل الصورة العامة عن البلاد، وتكونت صورة ذهنية لدى الدول الناطقة بالالمانية أن الاستشراق أصبح ظاهرة ثقافية محبوبة لديهم. وقام مؤلف الكتاب بتحليل كيف أن الاستشراق ليس فقط مجرد دراسة أكاديمية بل هو أيضًا ظاهرة ثقافية تعكس العلاقات السياسية والاجتماعية بين الشرق والغرب، فاعتمد الكتاب على منهجية تحليلية تجمع بين الأدب والتاريخ، حيث يستعرض نصوصًا أدبية مختلفة ويحللها في سياق تاريخي وثقافي. هذا الأسلوب يسمح للقارئ بفهم التفاعلات المعقدة بين الثقافات المختلفة وكيف تؤثر هذه التفاعلات على التصورات المتبادلة.

ويعتبر هذا الكتاب مساهمة قيّمة في فهم كيفية استقبال الثقافات المختلفة لبعضها البعض. ومن خلال دراسة الأدب الألماني، يسلط الكتاب الضوء على كيفية تشكيل الصور النمطية والتصورات الثقافية عبر الزمن. كما أنه يدعو إلى إعادة تقييم هذه الصور والتفكير النقدي في كيفية تأثيرها على العلاقات الدولية اليوم.

هذا الكتاب له تأثير كبير على الدراسات الحديثة حول الاستشراق وأدب الرحلات. إنه يشجع الباحثين على النظر إلى النصوص الأدبية كأدوات لفهم العلاقات الثقافية والسياسية، مما يفتح آفاقًا جديدة للدراسات الأكاديمية، ويعتبر دراسة شاملة تسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب من خلال عدسة الأدب الألماني. ومن خلال تحليل الصور الثقافية والتاريخية لمصر، كما يقدم الكتاب رؤى قيمة حول كيفية تشكيل الفهم الغربي للشرق وكيف يمكن أن تؤثر هذه التصورات على العلاقات الحالية. إن قراءة هذا الكتاب ليست فقط مفيدة للباحثين في مجال الدراسات الشرقية، بل هي أيضًا دعوة للجميع للتفكير النقدي في كيفية تأثير الثقافة والأدب على فهمنا للعالم من حولنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى