مقالات

“أكاذيب عن أمي” للكاتبة دانييلا دروشر: استكشاف العنف النفسي والضغوط المجتمعية

بقلم: الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…

إن رواية “أكاذيب عن أمي” (2016) للكاتبة الألمانية “دانييلا دروشر” (1977)، تمثل إضافة قوية للأدب المعاصر، حيث تجسد العديد من القضايا الاجتماعية والنفسية التي تمس كل فرد في المجتمع. فالرواية تُظهر ببراعة كيف تتداخل الأنماط الاجتماعية مع العلاقات الأسرية، وكيف تؤثر الضغوط المجتمعية على حياة الأفراد وتشكّل هويتهم. تدور أحداث الرواية في منطقة الهونزروك الريفية في ألمانيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وتحكي قصة طفلة نشأت في أسرة تعاني من التوترات الكامنة والصراعات التي تتعلق بالوزن، والجمال، والمعايير الاجتماعية.
الرواية بين الطبقات الاجتماعية والتمرد الشخصي
الرواية تفتح نوافذ عديدة على مفهوم الطبقة الاجتماعية، والعار العائلي، والعلاقات الأسرية في سياق تاريخي واجتماعي معين. تدور أحداث الرواية بين عامي 1983 و1986 في قرية صغيرة في منطقة الهونزروك في ألمانيا، وهي تمثل العودة إلى سنوات الثمانينيات المليئة بالذكريات والانعكاسات الاجتماعية، حيث يُمكن للقارئ الذي عاش تلك الحقبة أن يجد نفسه غارقًا في تجارب مشابهة للماضي. إن الرواية تطرح من خلال الشخصيات الرئيسية وخاصة الأم، مفهوم الطبقة الاجتماعية بكل أبعاده. فهي ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل هي أسلوب حياة وشعور بالعار يرافقه الرفض والاستبعاد من محيط اجتماعي معين. في هذه الرواية، لا تدور القصة حول الفقر المادي فقط، بل حول الإحساس بالعار الذي يصاحب الانتماء إلى طبقة معينة.
الحبكة الأساسية: العنف النفسي في إطار عائلي
تدور القصة حول الطفلة التي تراقب من موقعها داخل أسرتها الصراعات التي تنشأ بسبب وزن والدتها، ففي هذه الأسرة، يتحكم الأب في الحياة اليومية من خلال هوسه بوزن زوجته، مراهناً على أن تخفيض هذا الوزن هو المفتاح لجميع مشكلاته في الحياة، بدءاً من فشله المهني وصولاً إلى افتقاره إلى الاعتراف الاجتماعي في قريته، حيث ينظر الأب إلى وزن الأم على أنه سبب رئيسي في فشل حياته الاجتماعية والمهنية، ما يجعله يحاول فرض ضغوطات مستمرة على زوجته لتخفيض وزنها، ليكون بذلك هو سبب الصراع الرئيسي في هذه العائلة.
إن الأم، التي تتمتع بجمال وذكاء قويين، تجد نفسها في صراع داخلي مستمر بين محاولتها للامتثال لمتطلبات زوجها والمجتمع من جهة، وحفاظها على استقلالها وحقوقها الشخصية من جهة أخرى، ففي هذا السياق، لا تكون هذه الأم ضحية فقط للضغوط المجتمعية، بل تصبح أيضاً هدفاً للعنف النفسي المستمر من قبل زوجها الذي يلومها على جميع إخفاقاته.
التقنيات السردية: منظور الطفلة مقابل التحليل البالغ
إن من أبرز ما يميز الرواية هو أسلوب السرد الذي ينتقل بين منظورين زمنيين، حيث تُروى الأحداث أولاً من خلال عيون الطفلة، التي لم تدرك تماماً التأثيرات النفسية التي تتسبب فيها تصرفات والدها تجاه والدتها، لكنها تشعر بها بوضوح. ومن خلال هذه الرؤية الطفولية، تتكشف لنا تفاصيل مريرة عن الواقع العائلي، ما يجعلنا نعيش تجربة الطفولة بكل تفاصيلها البريئة والمربكة.
ومع تطور القصة، تُمكّننا الكاتبة من رؤية الأحداث من منظور الشخصية البالغة التي تعود إلى الماضي لتفهمه من جديد، فهذه المقاربة تتيح للقارئ إعادة النظر في الأحداث وفهمها في ضوء الحقائق التي ربما كانت مخفية أو مغيبة بفعل الزمن والذاكرة. هذا الانتقال بين رؤية الطفلة ورؤية البالغة يوفر نوعاً من التوتر السردي الذي يجعل الرواية أكثر عمقاً ويوجه القارئ لطرح أسئلة عن حقيقة ما حدث وكيف يتم تشكيل الذاكرة والتاريخ العائلي.
العنف النفسي والضغط الاجتماعي
على الرغم من أن الرواية لا تقدم العنف الجسدي المباشر، فإنها تتناول العنف النفسي الذي يتم ممارسته داخل الأسرة، وهو نوع من العنف الذي غالباً ما يكون غير مرئي لكنه مؤثر بشكل عميق على الأفراد. إن الأب في الرواية لا يوجه ضربات جسدية، ولكنه يواصل معاملة زوجته بانتقاد دائم وتحقير يجعلها تشعر بعدم الكفاءة ويقوض من احترامها لذاتها. وهذا النوع من العنف أكثر خطورة من العنف الجسدي لأنه يطال الشخص في عمق كيانه النفسي.
إن الرواية تتعامل بشكل دقيق مع كيفية تأثير هذه الممارسات على الشخصيات، وكيف يمكن أن تتحول هذه الأنماط من العنف إلى جزء من الحياة اليومية، مما يجعلها أكثر تعقيدًا وصعوبة في معالجتها. إن هذا العنف النفسي الذي تتعرض له الأم ينعكس على حياتها الشخصية، وعلى علاقتها بالأب، وعلى الأطفال الذين يراقبون هذا الوضع. فمن خلال هذه الرواية، نرى كيف يمكن أن يكون المجتمع بأسره، بالإضافة إلى الأسرة، مصدرًا لهذا العنف غير المرئي.
الطبقة الاجتماعية في الأدب: تحولات وتحديات
إن دانييلا دروشر ليست أول من يعالج هذا الموضوع في الأدب الألماني، لكن الرواية تمثل استمرارًا لحركة أدبية بدأت تتصاعد في السنوات الأخيرة، حيث بدأ الكتاب الألمان يتناولون موضوع الطبقات الاجتماعية بشكل أكثر وضوحًا. فالكاتبة تستلهم في عملها أسلوب الكتاب الفرنسيين مثل الكاتب “آني إرنول” و”ديدييه إيريبون”، الذين أعادوا إحياء فكرة “السيرة الذاتية الاجتماعية”، حيث يتم كشف تأثير الطبقة الاجتماعية على حياة الفرد وسلوكه.
فالرواية تتبع نهجًا جديدًا في تقديم الحكاية، حيث تمزج بين سرد الطفولة البريئة والناضجة. وهنا تستخدم دروشر أسلوبًا مبتكرًا يتراوح بين ذكريات الطفلة التي تسرد الأحداث من وجهة نظر بسيطة، وبين التحليل الأكاديمي للراوية البالغة التي تعيد تفسير تلك التجارب. هذا المزيج بين البراءة والنضج يعزز من قدرة القارئ على التفاعل مع النص من زاويتين مختلفتين، ويخلق مساحة للتفكير في تأثير العوامل الاجتماعية على الفرد.
العار والجسد: الموروث الاجتماعي
إن أحد أبرز القضايا التي تتناولها الرواية هي العلاقة بين الجسد والعار. شخصية الأم، التي تعاني من زيادة الوزن، تصبح محط نقمة الرجل في الأسرة، الذي يعبر عن استيائه من جسد زوجته وكأنها تمثل عارًا للأسرة. ورغم أن الكاتبة ترفض أن تقدم وصفًا دقيقًا لجسد الأم، إلا أن الرواية تتناول هذا الموضوع بشكل غير مباشر لتسلط الضوء على الاضطراب النفسي الذي يرافق هذا النوع من القبول السلبي لجسد الإنسان.
فالروية تُصوّر العداء بين الأم والأب حول الجسد كنوع من المقاومة التي ترفض التصنيف الاجتماعي وتحديات المجتمع. ومع مرور الوقت، تتحول هذه المعركة إلى رمز للتمرد على النظام الذكوري الذي يفرض قيودًا على النساء، ويجبرهن على التكيف مع معايير الجمال المجتمعية. وهذا التمرد يصبح شكلًا من أشكال التحرر الداخلي للأم، بالرغم من جميع الصعوبات.
الذاكرة والتاريخ الشخصي
الرواية ليست مجرد سرد لقصص شخصية، بل هي أيضًا نظرة إلى التاريخ الاجتماعي من خلال عيون الأفراد. تذكر دروشر في روايتها تأثير البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأت فيها على تشكيل هويتها. وباستخدام تعبيرات لغة الأسرة، مثل “أبي العزيز” أو “شيء غالي جدًا”، تخلق دانييلا دروشر عالمًا لغويًا خاصًا يتنقل بين القيم التقليدية والنظرة النقدية التي تنتمي إلى الزمن المعاصر.
إن تناول الموضوعات الاجتماعية من منظور شخصي، مثلما فعلت الكاتبة، يعكس تطورًا أدبيًا في الأدب الألماني، حيث يركز الكتاب على تأثيرات الطبقة الاجتماعية في تكوين الذات. حيث تطرح الرواية العديد من الأسئلة حول ما إذا كان الفرد قادرًا على تجاوز تأثير بيئته الاجتماعية، أو إن كان هذا التأثير سيظل حاضرًا طوال الحياة.
تأثير المجتمع على العائلة: الضغوط الجمالية والنظرة إلى الجسد
هناك واحدة من القضايا المركزية التي تطرحها الرواية، ألا وهي تأثير المعايير الجمالية المفروضة من قبل المجتمع على أفراد الأسرة، وبخاصة النساء، ففي ظل معايير الجمال التي تروج لها وسائل الإعلام والمجتمع، تجد الأم نفسها عُرضة لضغط مستمر لتلبية هذه المعايير، وهو ما ينعكس في علاقتها بزوجها الذي يتخذ وزنها مقياسًا للنجاح والفشل في الحياة. وكأن وجودها لا يُقاس إلا بمقدار توافقها مع هذه المعايير الجمالية.
فمن خلال هذا الصراع الداخلي، تعكس الرواية كيف أن مفهوم الجمال ليس فقط محكوماً بالتوقعات الفردية، بل هو أيضاً نتاج للبنية الاجتماعية التي تفرض توقعات غير مرئية على الأفراد. وبدلاً من أن تكون قادرة على قبول نفسها كما هي، تجد الأم نفسها في وضع يتطلب منها القتال يومياً من أجل الحفاظ على هويتها وكرامتها. هذه المعركة التي تخوضها هي صورة حية لآلاف النساء اللواتي يعانين من ضغوط مماثلة في حياتهن اليومية.
الاستخدام المبدع للدراما والكوميديا
إن ما يجعل “أكاذيب عن أمي” رواية مميزة هو المزج المبدع بين الكوميديا والتراجيديا. فعلى الرغم من الأزمات العاطفية الكبيرة التي تعيشها العائلة، يتمكن السرد من دمج مشاهد فكاهية وحالات من التوتر العاطفي التي تجعل القارئ يعيش تجارب متناقضة. إن هذه الانتقالات بين المواقف الكوميدية والمأساوية تخلق نوعًا من التفاعل العاطفي مع الشخصيات، حيث يستطيع القارئ أن يضحك ويتأمل في الوقت نفسه.
تأثير الرواية في الأدب العالمي
لقد تلقت رواية “أكاذيب عن أمي” إشادة كبيرة في الصحافة الألمانية والعالمية على حد سواء. في الصحف الألمانية الكبرى مثل جريدة “زيددويتشه تسايتنج” وجريد “فراكفورتر الجماينة” حيث تم تسليط الضوء على قدرة الكاتبة على المزج بين الأسلوب السردي الدقيق والتحليل العميق للشخصيات. وقد تناولت مواقع أدبية إسبانية وإيطالية مثل “الباس” وجريدة “لاروبيبليكا” الرواية باعتبارها تصويراً واقعيًّا للتحديات التي تواجهها النساء في المجتمع المعاصر، وأكدت على الطريقة التي ترسم بها دروشر صورة متقنة للعلاقات الأسرية التي تتأثر بشدة بالتوقعات المجتمعية.
ومن خلال الرواية، تدعو دانييلا دروشر قراءها للتفكير في العلاقات الأسرية والمجتمعية، وتأثير تلك العلاقات على فهمنا للهوية الشخصية والحرية الفردية فرواية “اكاذيب عن أمي” ليست مجرد حكاية عن أسرة نازحة في الريف الألماني، بل هي تأمل عميق في قضايا مثل السلطة، والجمال، والجسد، وتأثير تلك القيم على الأفراد داخل المجتمع.
استقبال الرواية على المستوى العالمي
لقد حظيت “أكاذيب عن أمي” بتقدير كبير من قبل النقاد العالميين، حيث تم الإشادة بها في العديد من الصحف والمجلات الأدبية الكبرى. على المستوى الألماني، وقد لاقت الرواية اهتمامًا واسعًا، حيث وصفت بأنها “رواية تستحق القراءة من أجل التفكير في معايير المجتمع في العصر الحديث”، وأكد النقاد في الصحف مثل “زيددويتشه نسايتونج” على أن الكتابة السردية العميقة جعلت منها مرجعًا مهمًا في الأدب المعاصر. كما اعتبر العديد من النقاد في إيطاليا وإسبانيا أن الرواية تقدم قراءة اجتماعية هامة للمشاكل النفسية التي تواجه النساء في جميع أنحاء العالم.
على الصعيد الدولي، لم تقتصر ردود الفعل الإيجابية على الأدب الألماني فقط، بل انتشرت عبر الصحف والمجلات الإنجليزية والعربية، حيث أُعجِب النقاد بقدرة “دانييلا” دروشر على تناول قضايا حساسة مثل معايير الجمال الضارة والضغط النفسي داخل الأسر.
الرواية تُسائل الطبقات الاجتماعية
“أكاذيب عن أمي” ليست مجرد قصة عن عائلة أو شخصيات، بل هي حوار مع الذات والمجتمع. إنها تمثل جسرًا بين الماضي والحاضر، وتقدم للقراء فرصة لفحص ماضيهم الاجتماعي والنفسي، وتطرح تساؤلات حول مكانتهم في المجتمع.
من خلال سرد مرن ينتقل بين الذكريات والقراءات التحليلية، تخلق دانييلا دروشر فضاءً أدبيًا يعكس التوترات بين الأجيال، الطبقات، والاختلافات الاجتماعية. عملها يعكس قدرة الأدب على التفاعل مع القضايا الاجتماعية بطريقة لا تقتصر على الحكي فقط، بل تمتد إلى التأمل النقدي في العلاقات الإنسانية وواقع المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى