منصات التواصل وقيم التسامح والستر

بقلم ــ عـــلاء ثابـت

الحماس الشديد لنشر مقطع فيديو لفعل فاضح بين شاب وفتاة فوق كوبرى الساحل يكشف عن أزمة أخلاقية لمن نشروا هذا المقطع، ويتصورون أنهم بفعلهم هذا يحمون الفضيلة، بينما الحقيقة عكس ذلك، ولنقارن ما فعله صحابة رسول الله ﷺ وموقف الرسول الكريم من ماعز بن مالك الذى ارتكب فاحشة، فأتعبه ضميره، فذهب واعترف لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيرى؟ فقال: لا. فقال له أبوبكر: فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه، حتَّى أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له مثل ما قال لأبى بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر.

فلم تُقْرِره نفسه، والتقى الصحابى هزال فحكى له، فأشار عليه هزال بالذهاب إلى رسول الله، واعترف بجرمه، فأعرض عنه رسول الله ثلاث مرَّات، حتَّى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله ﷺ إلى أهله فقال: أيشتكى، أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، والله إنَّه لصحيح، فأمر الرسول بأن يقام عليه الحد، وقال لهزال الذى أشار عليه بالاعتراف أمام الرسول: يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك. الفارق كبير بين سلوك مدعى الفضيلة على منصات التواصل، وسلوك الصحابة المقربين من الرسول، بل موقف الرسول الكريم نفسه، الذى أخذ يعرض عنه المرة تلو الأخرى، ولما وجد إصراره استدعى أهله، ربما وجد لديهم عذرا مثل الجنون أو أى خلل، فالغاية من الستر ليس الإفلات من العقاب، وإنما إعطاء الفرصة للتوبة، والعدول عن السلوك البغيض، فالستر قيمة لها دور فى حماية المجتمع أكثر من نشر الفضيحة، بل عكسها تماما، والذهاب إلى مخاطبة الضمير وإيقاظه، وعندئذ ستتحقق غاية أكبر من توقيع العقاب، لهذا قال الرسول لهزال «لو سترته بردائك لكان خيرا لك».

أى أن الصحابى هزال ارتكب خطأ عندما أشار عليه بالاعتراف بالذنب، وكان عليه أن يحذو حذو أبى بكر وعمر بن الخطاب اللذين نصحاه بالتوبة. هنا نرى التربية الصحيحة التى لا تقوم على التشفى فى المخطئ، ونشر ما يمس الأعراض، بل فتح طريق التوبة والتقويم قبل العقاب.

وجريمة ناشرى فيديو فضيحة كوبرى الساحل ماذا كانت غايتهم، ولماذا هذا السباق على «تشيير» الفيديو الفضائحى، وأى نفسية دفعت بهم إلى هذا السلوك؟ إذا قالوا إنها الغيرة على القيم والدين، فلماذا منح الصحابة والرسول كل تلك الفرص لمن ارتكب ما هو أقبح مما فعله الشاب والفتاة؟ إنه ليس الدين وليست الأخلاق، إنما الاعتقاد الزائف بأنهم حماة أخلاق، بينما يرتكبون جريمة، فقد جعلوا من أنفسهم قضاة يحاكمون الشاب والفتاة، بل امتد جرمهم إلى أسرتى الشاب والفتاة، وهم أبرياء لم يفعلوا شيئا، لكنهم سيحملون الفضيحة لزمن غير محدد، وسيَلحق بهم إيذاء نفسى لا يستطيع كثيرون تحمله، ومن التقط الصورة ونشرها اعتقد أنه حصل على سبق سيجعل من صفحته أكثر شهرة، وشعر بالسعادة كلما زاد انتشار ما التقطه، ومن نشروا عنه هذا المقطع المخجل أكثر سوءا ممن التقطه، وتحولوا إلى قطيع ينهش فى الأعراض، دون وازع من ضمير باسم الدفاع عن الشرف، بئس هذا التعريض بالشرف الذى يعرى وينشر الفضائح.

لأن فضيلة الستر عند الفقهاء أعلى من فضيلة العقاب حبًّا لإخفاء الفضيحة، وكراهيةً لإشاعتها، بينما فعلت منصات التواصل العكس، وهبوا لكشف الفضيحة وتكالبوا على إشاعتها. سنجد الكثير من الأحاديث النبوية والمواقف لصحابة وفقهاء تعلى من قيمة الستر، ومنها حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

لم تكن واقعة كوبرى الساحل فريدة أو استثنائية فى مواقع التواصل، بل هى مليئة بالفضائح والنميمة، وأصبح البعض يستخدمها فى الثأر الشخصى، والتشنيع والابتزاز والتشهير، حتى العلاقات الشخصية الحساسة داخل البيوت أو الخلافات بين الأزواج أو وقائع الطلاق أصبحت مادة للسرد على منصات التواصل، والأكثر إدهاشا أنك تجد من يعلقون على تلك الروايات المنتزعة من داخل البيوت، والتى على قدر كبير من السرية، وينحازون إلى طرف على حساب الطرف الغائب، ويهللون ويشجعون وكأنهم فى ملعب لكرة القدم، وتنشر بعض النساء أخبار طلاقهن أو خلافهن مع أزواجهن، ويتلقين التهانى والتبريكات بالطلاق، والتشجيع والتأييد من أطراف ليس لها أى علاقة بالزوجين، وبالكاد يعرفون أحد أطرافها من على منصات التواصل، وقليلا ما تجد عقلاء يتدخلون بالقول إن هذا لا يجوز نشره على صفحات المنصات، ومن الأفضل أن يكون فى نطاق ضيق بين المقربين من الأصدقاء الذين يمكنهم النصح والمصالحة، وليس تعميق الفرقة والخلاف بين أزواج أو مطلقين. لقد فاجأنى أحد شباب الصحفيين بالجريدة عندما أطلعنى على وجود صفحات ومجموعات «جروبات» كل دورها نشر النميمة والفضائح، بل هناك فتيات ينشرن صور وأسماء شباب يطلبون معلومات عنهم، بدعوى أنهم تقدموا لخطبة فتاة أو يريدون التعرف عليها، وتنهال الشهادات والنصائح والإخباريات التى لا يمكن التيقن منها بالطبع، وأن النشر بهدف التجريس والانتقام فى أغلب الأحيان، فتعم الفضائح وتصبح محط اهتمام شريحة كبيرة من المجتمع، خاصة الشباب الذين يعلق عليهم الوطن آماله فى التقدم والنماء ونهل العلم وتقويم الأخلاق، فإذا بالمنصات تفتح أمامهم طريقا آخر، يزخر بالفضائح، ويقل فيه ما يفيد المجتمع.

لا أؤيد فرض قيود على منصات التواصل من جانب الدولة وأجهزتها، بل أؤيد صحوة لشبابنا وعلمائنا ومثقفينا، وأن يفتحوا نقاشا حول ما ينبغى نشره وما ينبغى تجنبه، وكيف نستخدم تلك المنصات فيما يفيد المجتمع وينشر اجتهادات وآراء وإبداعات ومعلومات علمية واجتماعية وسياسية واقتصادية يمكن أن تفيدنا، سواء من تجارب الدول الأخرى أو من خبراء معنيين يمكن أن نوسع الفائدة بآرائهم، وأن نكبح تلك الآفات اللا أخلاقية التى تتكالب على الفضائح ونشر الغث والضار، حتى لو ادعت أن هدفها التحريض على مرتكبى تلك الفضائح، فليس بالنشر والترويج يمكن وأد تلك الآفة اللعينة، وقد رأينا كيف عالجها سابقونا، وموقف الرسول الكريم والصحابة والعلماء، وأن نسهم فى نشر القيم النبيلة مثل التسامح والتعاضد والتكافل، بما يحقق الفائدة للأفراد والمجتمع، ويعزز القدرة على مواجهة منصات التواصل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى