شكري المثلوثي يكتب.. نحو تأسيس عمادة للمخططي المدن في تونس

بخطى حثيثة ننطلق في إنشاء هيكل تنظيمي طال انتظاره للعاملين و الناشطين في مجال تخطيط المدن في تونس و مما لا شك فيه أن هذا الهيكل المنتظر قد تأخر تاسيسه كثيراً.

نسعى لهذا التاسيس و ذلك رافة باقتصاد تونس و عمران تونس و ريف تونس و على ما تواجه مدن تونس من تحديات شائكة ومشكلات صعبة تعود بعض أسبابها إلى سوء التخطيط المجالي بجميع أنواعه، وعدم إعطاء مهنة التخطيط الحضري وضعها واعتبارها المستحق ولان الاختصاص متشعب و متداخل ستسعى الهيئة للاجابة عن سؤالين محددين:

فليس بجديد إذا يوجد في عدد كبيرمن الدول المتقدمة او حتى الدول في طريق النمو عدد من هيئات يوكل لها تسيير شؤون مهنة تخطيط المدن وعن طريقها تضبط شروط الممارسة، وتحاسب عبر قوانينها من يتجاوز اخلاقيات العمل المهني من المنخرطين فيها، و تصبح الشريك مع الدولة وليس جزءاً منها، بحكم وضعها القانوني المعترف به، في رسم سياسات التخطط المجالي على المستوى المحلي و الجهوي والإقليمي والوطني، كما بامكانها ابداء النظر في البرامج الاكاديمية للمؤسسات الجامعية ذات الصلة، وبذلك تصبح تلك الهيئة المهنية قاطرة و مساهمة في أي قرارات تتعلق بالشؤون الاستراتيجية للمدينة و للعمران، و للمجال الترابي عموما وتحديد الأولويات العمرانية الوطنية والإقليمية واعتمادها، و تساهم ايضا في تطوير المعرفة واكتساب المهارات وفق متطلبات المهنة وعلومها الحديثة، وغير ذلك من المهام والمسؤوليات و من الواضح أن الواقع في تونس ليس بهذه الشكل المطلوب؛ ممّا انعكس سلبا المشهد العمراني كثيراً.

وبناءً على ذلك تأتي العمادة المنتظرة لتعمل بالتآزر والتعاون والشراكة مع الكيانات المهنية ذات العلاقة بما فيه النفع لتونس.

و يقصد بمُخطِط المدن كل من تلقى تكوينا جامعيا في التخطيط، من مؤسسة جامعية معترف بها لتقديم المهارات والكفاءات، التي تمكنه من ممارسة المهنة، و القدرة على انجاز المخططات العمرانية والترابية، انطلاقا من المفهوم وصولا الى التصميم، اضافة الى قدرته على المساهمة في وضع الاستراتيجيات والسيناريوهات الخاصة بتطوير المواقع  العمرانية بهدف جعل البيئة المبنية أكثراستدامة.

 و بهذا التعريف يعتبرالمتخرج الذي تلقى تعليما أكاديمياً في التخطيط، وبعد ممارسة المهنته ميدانيا و بعد صقل خبراته، يصبح قائداَ لفريق متعدد الاختصاصات يساهم كل واحد فيه بمساهمته في الجوانب التي تخصه، على سبيل المثال لا الحصر: الجغرافي, المعماري وخبير نظم المعلومات الجغرافية، والمهندس المدني، و خبير في البيئة، و خبير الاقتصاد والاجتماع الحضري، و الفلاحة، و قانون التعمير و العقار وغير ذلك، كما توكل اليه قيادة تنسيق أعمال فريق التخطيط عدة مسؤوليات تتمحور حول تصميم المخططات المجالية الاستراتيجية، و وضع السياسات التي تعتمد على المقاربة التشاركية بهدف جعل البيئة الحضرية آمنة ومرنة تمكنها من الصمود الذاتي و أن تتجاوز المخاطر آنية أو مستقبلية و أن تصبح البيئة مستدامة، تاخذ بعين الاعتبار اللإنسان واحتياجاته بحيث توفر الخدمات للجميع و ينعم سكانها بالعيش الكريم، وتتوفر بها محفزات العطاء والإنتاج المستدام.

مؤهلات مهنة التخطيط: بالاعتماد على منظور التكوين الأكاديمي، الذي يمنح درجة التاهيل العلمي الذي يمكن المتخرج ليعمل كخبير في متخطِيط المدن، نرى أنه يجب أن يتمتَّع بعضوية عمادة مخططي المدن الاختصاصات الآتية:

– خريجي الأقسام العلمية للتخطيط العمراني و التهيئة الترابية: و هم في نظرنا من يستحقون الانخراط بعد تخرجهم مباشرة تحت التدريب وفق اللوائح التي تضعها الهيئة المهنية، وهو استحقاق مؤكد و لا لبس فيه…

– خريجي الأقسام العلمية بمدرسة الهندسة المعمارية و التعمير و المتحصلون على مؤهل جامعي في التخطيط العمراني والتصميم الحضري …

– خريجي أقسام الجغرافيا الذين تحصلوا على تكوين في التخطيط و العمران و التهيئة الترابية ..

كما يجب ان يتم وضع شروط واضحة لتمنح درجة معينة للعضوية، بحيث يصنف المنخرط “بصنف أ” و “بصنف ب” و تعتمد على سنوات الخبرة و الدرجة العلمية و وزن ساعات التكوين حيث أن تكون الساعات العملية لتدريس التخطيط والتصميم الحضري بالوزن الذي يتناسب مع ما درسه الخريجون بأقسام التخطيط الحضري أو الإقليمي في المدارس العليا ذات الاختاصاص و يتمثل تبريرنا لهذا الشرط، أن أقسام الهندسة المعمارية تعطي مثلا وزناً للساعات العملية في التصميم المعماري بصورة مركزة وكبيرة جداً و هي مسألة طبيعية، بالنظرلمتطلبات التكوين لاتقان مهارات وتقنيات التصميم المعماري نفسه.

بينما تؤمن المدارس المختصة في التخططيط الحضري و التهيئة الترابية مواد لا كثيرة و دقيقة لا تدرس في مدارس الهندسة المعمارية على سبيل المثال لا الحصر علم الخرائط بنظم المعلومات الجغرافية و النقل الحضري و علم الاحصاء و علم منظومة المدن و الديمغرافية الحضرية و التخطيط والتصميم الحضري و غيرها من المواد ….

كما ان المتحصلون على مؤهل عالي في تخطيط المدن و التنمية الحضرية وهو تكوين تقدمه عديد الجامعات في العالم، منها مثلا تخطيط المجتمعات الحيوية و المدن الذكية، والسياسات الحضرية والحوكمة المحلية، وبرنامج تخطيط الإسكان، وبرنامج التطوير العقاري فمن الواجب النظر في رتب التدرج المهني لمن يحملون هذه المؤهلات العليا وذلك عبر ما تؤسسه العمادة المنتظرة من تصنيف ومعايير لمسارات المهنة ولوائحها التفصيلية.

كذلك من المهم الإشارة إلى أن برامج الدراسات العليا في تخطيط العمراني واستدامة المدن بصفة عامة، هي برامج أكاديمية عابرة بين الاختصاصاتً، ويتم تقديمها في كثير من المؤسسات الأكاديمية عبر العالم في تونس هناك دراسات عليا متعددة في التخطيط تقدمها الجامعات التونسية في برامج متكاملة، وقد  كانت اولها في السبعينات من القرن الماضي مدرسة تكنولوجيا الفنون والهندسة المعمارية والتعميربتونس التي كانت في اول الامر تمنح شهادة جامعية في الهندسة المعمارية و التعمير تعتمد على نظام تدريس سبع سنوات بعد الباكلوريا ثم بصدور قانون سنة 1978 تم الفصل بين الهندسة المعمارية و التعمير و سنة 1992 تم تاسيس قسم التعمير بنفس المؤسسة التي تؤمن شهادة الدراسات المتخصصة في التعمير ثم سنة 1995 تؤمن نفس المؤسسة شهادة الدراسات المعمقة في التعمير و في سنة 2002 تم تاسيس المعهد العالي لتقنيات البيئة والتخطيط العمراني والبناء كما تؤمن كليات الجغرافيا تكويا في مجال التهيئة الترابية و التخطيط و جميعها لها قدرات تؤهلها للانضمام للعمادة المنتظرة…

و من الجوانب المهمة التي يجب الانتباه لها ضمن شروط الانخراط للعمادة الناشئة، هي الصفة الاحترافية في التخطيط و اتقان التخطيط المكاني الاستراتيجي والتشاركي و التشريعات وممارسة المهنة وتضم قائمة الاختصاصات المساندة للتخطيط الحضري والإقليمي برامج أكاديمية كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال علوم الجغرافيا والبيئة والهندسة المدنية، جميع أصحاب هذه العلوم يجب وضع لائحة للانضمام والتدرج المهني لهم بالعمادة بناءً على شهاداتهم وممارساتهم وخبراتهم المكتسبة …

قبل الختام يجب التأكيد على أن مهنة التخطيط الحضري و التهيئة الترابية كما هو الحال في عديد الدول، لها مكانة مرموقة منذ سنين (المغرب على سبيل المثال)، يجب حمايتها وتأطيرها في تونس بشروط جدية وغير فضفاضة، فكون التخطيط الحضري والاقليمي بمحتواه العملي، هوإطار شمولي يتضمن عدة تخصصات ومجالات عمرانية وهندسية وجغرافية وبيئية وتشريعية وغيرها، فلا يعنى ذلك إطلاق صفة مُخطِط، إلا على من توفر فيه جدارات محددة ينبغي إقرارها من العمادة التي سبعث بعون الله، باعتبار انها مهنة يمارسها بشكل احترافي المؤهل القادر على تخطيط وتصميم المجال الحضري والإقليمي…

كما انه ضاعت على تونس أوقات ثمينة، و انفقت موارد مالية يصعب عدها في غير مجالها المخصص، لأسباب كثيرة، تفسر بسوء التخطيط في إدارة الموارد، والبيروقراطية، و نؤكد أن من بين تلك الأسباب، عدم وضع مهنة التخطيط الحضري في مكانها المستحق، ولا قيمتها القوانين كما ينبغي…

والفرصة متاحة الآن، لتنظيم المهنة لأجل حياة كريمة لمجتمع مستدام وآمن و منتج  و لتامين التنمية العمرانية وسياساتها في الريف والحضر، لذوي الاختصاص عبر هيئة مهنية تنظم هذا الشأن لمستقبل حضري و ان نؤسس مدنا أكثر إزدهاراً في كل بلاد تونس، ولعل هذا ما يمكن أن يتحقق عبر عمادة وطنية لمخططي المدن ….

بقلم شكري المثلوثي

خبير في تخطيط المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى