مقالات
أخر الأخبار

الرسائل الهدامة في الصغر تخلق مريضاً نفسياً في الكبر

نحن بشر ولسنا آلهه

 

 

كتبت: ميار ترك

 

 

معظم الأمراض النفسية لها أسباب بيولوجية معروفة ومثبتة بدلائل علمية قوية، إلى جانب عامل وراثي لا بأس به فى كثير من الحالات.. لكن.. في الحقيقة، لا تفسر الأمراض النفسية فقط بالأسباب البيولوجية، أو بالعوامل الجينية، فهناك عشرات وربما مئات العوامل الأخرى التي تتداخل مع بعضها لتؤدي أخيراً للإصابة بهذا المرض النفسي أو ذاك.. ومن أهم هذه العوامل طريقة التربية، ومعاملة الأب والأم، والرسائل التي وصلت للأبناء من خلالهم، والتي تضامن تأثيرها مع باقي العوامل حتى أصبح لدينا مريض نفسي.

يصل إلى كل منا خلال تربيته مجموعة من الرسائل النفسية التي – مع تكرارها وتأكيدها من الأب والأم – تتحول إلى جزء لا يتجزأ من التكوين النفسي للأبناء، لدرجة أن هذه الرسائل تظهر إليهم من داخلهم تلقائياً فيما بعد وكأنها نابعة منهم شخصياً، فمن وصلته رسائل نفسية من نوعية (أنت لا تستحق).. (أنت أقل من غيرك).. (فلان أفضل منك).. سيكبر وستظل هذه الرسائل داخله.. وسيسمع صوتاً عميقاً من داخله يخبره بين الحين والآخر: أنت ناقص.. أنت سيئ.. أنت فاشل.. وهكذا.

تصور من وصلت إليه رسائل نفسية في طفولته محتواها عبارة عن (أنت لم تفعل ما عليك).. (أنت دائماً مقصر).. (أنا لست راضياً عنك).. (يوجد أفضل من ذلك).. ويقوم صاحبها بتصديقها وتخزينها داخله، لدرجة أنه يبدأ بعدها في التعامل مع نفسه على أساسها.. تصور ماذا سيحدث له؟

ما سيحدث له بكل بساطة هو أنه لن يشعر أبداً بأنه قد عمل ما عليه، وسيملؤه الشك في كل شيء يقوم به.. سيشعر بالذنب والتقصير في كل خطوة يقوم بها، لأنها (من وجهة نظره الآن) ناقصة، وغير كاملة، وكان من الممكن أن تكون أفضل.

ستخرج لهذا الشخص من داخله فكرة ملحة عند كل فعل بأنه: (مازال ناقصاً).. ( ليس على القدر المطلوب).. (هناك ما هو أفضل).. (يجب أن تعيدها مرة أخرى).. (لست راضياً عنك بعد).. (افعل الصواب).. فلا يملك سوى أن يعيد ويزيد ويكرر ما فعله مرات ومرات حتى يهدأ باله ويرتاح قليلاً.. قبل أن تراوده نفس الفكرة الملحة مرة أخرى.. وهكذا.. بلا نهاية.

قد يحدث ذلك فى النظافة، في الوضوء، في الصلاة، النظام، الترتيب، الأكل، الشرب، الاستحمام، قفل الباب وفتحه، طريقة وتفاصيل الملبس.. أي شيء.. أي شيء.. سلسلة لانهائية من الشك والمراجعة وعدم الرضا.. ماذا تنتظر من شخص تمت تربيته على أنه دائماً مشكوك فيه.. دائماً غير مرضي عنه من أبيه وأمه.. ماذا تنتظر منه غير الإعادة والتكرار اللاهث المحموم.

ما وصفته للتو هو واحد من أشهر الأمراض النفسية وأكثرها انتشاراً.. اسمه (الوسواس القهري).. وقد يتحول في بعض الأحيان إلى سمات وخصائص شخصية عميقة وطويلة الأمد، يكون صاحبها وقتها مصاباً بما نسميه (الشخصية الوسواسية القهرية).

هناك بالطبع شكل آخر من أعراض هذا المرض.. وهي أفكار متلاحقة تطلب من المريض أن يشتم أحداً أو يسيء إلى أحد، وأحياناً يكون ذلك موجهاً إلى (الله) ذاته.. لكن فى الحقيقة لا يكون (الله) هنا غير رمز لكل سلطة أبوية /والدية تعامل معها المريض في حياته، وقامت بتوصيل تلك الرسائل القاسية التي ذكرناها سابقاً.

فى أحيان أخرى.. تتوارد على ذهن المريض أفكار أو صور جنسية، يحاول مقاومتها بشتى الطرق دون جدوى.. ويكون ذلك أيضاً شكلا من أشكال التمرد والاعتراض على تربية قاسية عنيفة.

مريض الوسواس القهري يوجد داخله عملاق نفسي ضخم، صوته عال وتأثيره قوي.. عملاق جبار لا يرضى أبداً.. بيده سلاحان في منتهى القسوة.. سلاح الشك.. وسلاح الشعور بالذنب.. يستخدمهما حتى يسلط على المريض أفكاراً وخيالات وصورا بشكل متلاحق ومتواتر، لا يكل ولا يمل.. ويعيد طوال الوقت نفس الرسائل القديمة التي وصلته: (لم تفعل ما عليك).. (أنت دائماً مقصر).. (أنا لست راضياً عنك).. (افعل الصواب).

لغة هذا العملاق ومفرداته كلها عبارة عن مشتقات وتنويعات من (لازم) أو (المفروض).. مجموعة هائلة من اللوازم والمفروضات، كل منها كالسيف الحاد المسلط على نفس صاحبها بدون راحة أو هوادة.

أود أن أقول لكم بكل معاني الأمل والرجاء..
ارضوا من أولادكم بأقل القليل..
لا تعايروهم بالتقصير وعدم الكمال..
لا تجلدوهم بسوط (لازم)..
ولا تشنقوهم بحبل (المفروض)..
سامحوهم واعذروهم واقبلوا أخطائهم وضعفهم وفشلهم..

وقبل ذلك…
سامحوا أنفسكم.. واعذروها.. واقبلوا أخطائكم وضعفكم وفشلكم..
نحن بشر..
ولسنا آلهه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى